الولاء: للعقيدة أم للوطن؟

TT

سمعت أحد قادة الرأي في العالم الإسلامي من علماء الدين يجزم بوضوح لا لبس فيه أن الإسلام لا يعترف بمفهوم المواطنة ولا بالكيانات الوطنية الضيقة، فالولاء الوحيد الذي يقره هو ولاء العقيدة لا ولاء الوطن الذي نعته بالشوفينية المرفوضة.

يطرح هذا القول إشكالية فكرية وإجرائية معقدة في الساحة الإسلامية التي تعرف هذه الأيام استقطابا حادا بين المتشبثين بالخيار الوطني والمتمسكين بالصف العقدي. ولهذا الاستقطاب آثار عملية بادية للعيان كشفت عنها الأزمات المشتعلة في المنطقة سواء تعلق الأمر بفلسطين أو العراق أو لبنان.

ففي الموضوع الفلسطيني يشتد التناقض بين منطق التسوية السلمية بحسب معايير الشرعية الدولية، والتفاوض الثنائي الذي تتبناه الحركة الوطنية الفلسطينية من منطلقات وطنية واقعية (خط الرئيس محمود عباس ومنظمة فتح) ومنطق الصراع الحضاري والقومي الذي تعتمده حركات المقاومة الإسلامية بدعم واسع من التيار القومي الإسلامي(خط حكومة حماس)

وفي الملف العراقي يصل الصدام الى حده الأقصى وإن التبست خيوطه على خطي المواجهة الطائفية والإقليمية، حيث يرفع بعض ناشطي المجموعات الشيعية شعار الخصوصية الوطنية للتحرر من تركة النظام القومي البعثي، وان كانوا في الآن نفسه طرفا في لعبة إقليمية إيرانية تؤطرها وشائج القرب الطائفي.

وفي الطرف الآخر تتأرجح حركة المقاومة بين التيار الرافض للمعادلة الجديدة من منطلق مواجهة الاحتلال والتمسك بالسيادة الوطنية والتيار الراديكالي الذي يستند في حربه الإرهابية على الدولة الجديدة على منطق الشرعية العقدية (القاعدة والتنظيمات الموالية لها).

وفي الساحة اللبنانية حيث المعادلة الطائفية المعروفة تتصادم الاتجاهات وفق خطوط تصدع عديدة من آخر تجلياتها الحرب الأخيرة التي قادها حزب الله على الخطين.

وقد ينظر إلى الظاهرة في سياق أوسع، تناوله الصديق برهان غليون في كتابه الهام «المحنة العربية الدولية ضد الأمة» الذي درس فيه تعايش الزمنين الوطني والقومي في الوعي السياسي العربي المعاصر، بيد أن ما يهمنا في هذا الحيز هو إبراز نتائج هذا التعايش في الواقع السياسي العربي.

فغني عن البيان أن الانفصام القائم في الساحة العربية الإسلامية بين أنماط الوعي الوطني والقومي والعقدي لا أثر له في السياق الغربي حيث استطاعت الدولة الوطنية أن تشكل إطارا اندماجيا واسعا يستوعب ويتجاوز الانتماءات الخصوصية في نسق المواطنة، كما تمكنت في الآن نفسه عن طريق آليات التنظيم السياسي التعددي من استيعاب التنوع العقدي وإدارته سلميا.

ولقد عجزت الدولة العربية الإسلامية عن تأدية هذه الدور لجملة أسباب يطول ذكرها نقف من بينها على سببين محوريين:

أولهما: طبيعة التركيبة المجتمعية التي لا تزال تغلب عليها أشكال الانتماء ما قبل المدنية الحديثة بنظامها الهرمي التراتبي الذي يولد كوابح فعلية ضد تجذر الدولة المركزية الناشئة التي تعيد إنتاج التركيبة ذاتها لأسباب عملية.

وقد أطلق عالم الاجتماع الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ على هذا النموذج تسمية «الدولة السلطانية الجديدة». فما يميز هذه الدولة عن الدولة السلطانية الوسيطة هو هذا الائتلاف بين البنية البيروقراطية المركزية (التي هي نتاج النسق السياسي الحديث) والتركيبة العصبية الأهلية من حيث وظيفتها المزدوجة في أرضية السلطة.

ثانيهما: الطابع العقدي للدولة التي لم تستطع الانتقال من المقاربة بالجوهرية للقيم الجماعية (أي تحديد نسق مسبق للنموذج المجتمعي) إلى المقاربة الإجرائية التي هي السمة المميزة للديمقراطيات الحديثة.

ولا يعني الأمر هنا حصر الإشكالية في الحوار الزائف حول العلمانية، وإنما النظر في طبيعة الدولة نفسها التي لم تعد شرعيتها قائمة على الهوية العقدية وإنما على التعاقد المدني المولد لقيم الاجتماع المشتركة والحاضن لحرية الوعي والتعبير. لقد تولد عن هذا الخلل في قيم المواطنة تحول الانتماءات الأهلية والعقدية والآيديولوجية إلى خطوط تصدع في تركيبة الدولة ذاتها وكأننا أمام مشاريع دول متصادمة وليس أمام مشاريع مجتمع متضاربة ضمن نسيج وطني موحد.

وتشكل هذه الخلفية عائقا جوهريا من عوائق التحول الديمقراطي في البلدان العربية لغياب دائرة الإجماع الوطني التي تقتضيها المنافسة السياسية كشرط من شروط التحكم السلمي في الصراع الاجتماعي ـ السياسي القائم.

وإذا كانت الدساتير الوطنية تنص بوضوح على مجموعة من الثوابت الأساسية التي تؤطر وتوجه العمل السياسي، إلا أن هذه النصوص الشكلية نادرا ما تعبر عن قيم متقاسمة ومجمع عليها، بل هي في الغالب اقتباسات من النصوص الدستورية الأوروبية، مما يفسر سهولة انتهاكها وتوظيفها في مسارات وسياسات متعارضة.

لقد كشفت التحقيقات البريطانية الأخيرة حول الخطة الإرهابية المجهضة التي كانت تهدف إلى تفجير الطائرات المتجهة لأمريكا حقيقة مؤسفة لا بد من الإقرار بها، وهي عجز الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين المسلمين إلى الغرب عن الاندماج النشط في بلدانهم التي ولدوا فيها وسهولة اقتناصهم من دعاة الإرهاب والتطرف، مما ينم عن خلل خطير في وعي المواطنة التي تصطدم لدى الكثيرين بالولاء العقدي، غير مدركين أن المكسب الأكبر لعصور الحداثة هو تحويل الدولة من حصن العقيدة إلى فضاء ضيافة يستوعب الجميع.