عن البيان الأول لثورة القذافي الابن

TT

قبل أيام قليلة من حلول الذكرى السادسة والثلاثين لثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول)، أطلق سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي، بيانه الأول الذي أعلن فيه بداية ثورة جديدة على أوضاع بلاده التي وصفها بالمزرية والمتردية في كافة المجالات. وبشر الجماهير الليبية بطموحه لإعداد خطة لإعادة بناء البلاد لمائة سنة قادمة (هكذا مرة واحدة). ورغم أن القيادة الليبية عودتنا على المفاجآت بين الحين والآخر إلا أن بيان سيف الإسلام يمثل مفاجأة من نوع خاص من العيار الثقيل إن شئت الدقة.

وإذ لا نتصور أن هذا الكلام الذي أطلقه صَدَرَ بغير علم الزعيم القذافي أو رغما عنه في الأقل بدليل أن الشاب ما زال على قيد الحياة وما زال رأسه في موضعها بين كتفيه، إلا إننا لا نخفي استغرابا لتوقيت صدوره، إذ المعتاد في مناسبة ذكرى قيام «الثورة» أن نستعرض الإنجازات التي حققتها، خصوصا إذا كانت قد بلغت من العمر 36 عاما، ولكن المفاجأة الثقيلة تمثلت في أن الكلام جاء مُعلنا فشل الثورة وتردي كل أوضاع الشعب الليبي بعد قيامها حتى الآن. السيد سيف الإسلام لم يذكر حسنة واحدة ذات قيمة لتجربة النظام طيلة تلك الفترة الطويلة.

الطريف في الأمر أن ما قاله نجل الزعيم الليبي لم يختلف في شيء عما يقوله معارضو النظام، الذين دفع الآلاف منهم حياتهم ثمنا لموقعهم وشيوع الفساد في البلاد، حتى ليبدو لي أن مساعدي سيف الإسلام جمعوا بيانات المعارضة الليبية المنشورة في الخارج، خصوصا على مواقع الإنترنت، وبعد أن حققوا موضوعاتها، قدموها إليه لكي يتبناها كاملة، ويسحب البساط من تحت أقدامهم بل ويذهب إلى ابعد، حيث يقدم نفسه باعتباره القطبَ المعارضَ للنظام والمرشح لإصلاحه وتصويب أخطائه، ومن ثم فإنه يقوم بدور المنقذ الحقيقي للبلاد، وليس تلك المجموعة العاملة بالخارج التي تسمي نفسها جبهة إنقاذ ليبيا.. وكأنه أراد أن يقول: انهم يكتفون بالنقد والتنديد ولكنني أمارس النقد مثلهم تماما، والتفوق عليهم في القدرة على تقديم الحلول من داخل النظام.

طبقا لما نشر عن خطاب سيف الإسلام بعدما فهمنا انه يرأس ما سمي بـ«مؤسسة القذافي للتنمية» التي نظمت في بلدة سرت الملتقى الأول للمنظمة الوطنية للشباب الليبي (حضره 15 ألف شخص)، فان ليبيا في وضعها الراهن بلا دستور ولا صحافة ولا ديمقراطية ولا تنمية (لا تسأل ماذا بقي بعد ذلك؟!) ولأن الأمر كذلك فلا مفر في رأيه من إعادة بناء البلاد من جديد في إطار حملة شعارها «معاً من اجل ليبيا الغد».

في تفعيل مشروعه الإصلاحي الذي ذكر انه سيدخل حيز التنفيذ في شهر سبتمبر المقبل، أشار إلى انه ستتخذ إجراءات عملية للنهوض بالتعليم، بحيث سيتم توفير مليون حاسوب لمليون طفل ليبي وزف إلى مستمعيه خبر تبرع الولايات المتحدة بنصف هذه الكمية وذهابها في الكلام إلى حد تقديم خدمة الإنترنت بالمجان لكافة المؤسسات الليبية خلال عام كامل. ولكي يؤكد بشارته، فإنه أعلن أن مسؤولا أمريكياً التقى العقيد القذافي قبل أيام، ونقل إليه الرغبة الأمريكية في تطوير التعليم بليبيا، والمنحة التشجيعية المقدمة لها في هذا الإطار.

من التعليم انتقل إلى الصحة، وذكر أن 40 مستشفًى ليبياً سيتم ربطها بمثيلات لها أجنبية لتطويرها، كما سيتم تحسين دخول الأطباء والعاملين في ذلك القطاع، مشيرا إلى تدهور الخدمات في ذلك القطاع، الأمر الذي أدى إلى انتشار السرطانات والأوبئة في الاقتصاد.

وقال القذافي الابن إن ثمة خطة لإلزام 750 شركة أجنبية تعمل في ليبيا بتشغيل المواطنين، وتحدث عن إقامة مليون شركة خلال عقد من الزمان يملكها ليبيون، وعن ضرورة المساواة بين المستثمرين الأجانب والليبيين في المزايا والإعفاءات، كما تحدث عن خطط لرفع إنتاج ليبيا من النفط لكي يصل بعد ثمانية اشهر إلى مليوني برميل يوميا.

على هذا المنوال، ظل يتكلم صاحبنا مفصلا في الإصلاحات المنوط إجراؤها في مجالات الخدمات المصرفية والاتصالات والزراعة والسياحة والصناعة والطرق والكهرباء والمياه والشباب.

وأعلن قرارا برفع الحد الأدنى للأجور بحيث يصل إلى 200 دينار في القطاع العام و250 دينارا في القطاع الخاص (رسميا الدولار يساوي 1.28 دينار). كما أعلن خططا لمعالجة ظاهرة البطالة بين المواطنين مطالبا بتحويل الدعم السلعي الذي يقدر بتسعة ملايين دينار ليبي لدعم المرتبات.

هذا الكلام الكبير جدا، أطلقه سيف الإسلام ليس بوصفه وليا للعهد، كما قال، ولكنه بصفته أحد أبناء ليبيا الغيورين على مصالحها، والذين وضعتهم المقادير على رأس «مؤسسة القذافي للتنمية». ولئن اعتبر مشروعه إصلاحيا إلا انه يمثل محاكمة للنظام الليبي، ووثيقة تثبت فشل تجربته المستمرة منذ 36 عاما، ولا يستطيع المرء أن يستقبله إلا بحسبانه محاولة لتحسين صورة النظام من خلال دغدغة مشاعر الجماهير الليبية وامتصاص سخطها وتبني مطالبها ثم أنه محاولة لا تخفي دلالتها لتعزيز موقع سيف الإسلام كمنقذ ووريث ودعوة ضمنية للمراهنة عليه في المستقبل باعتباره معارضا للنظام وامتدادا له في نفس الوقت.

لقد تجاهل الإعلام العربي خطاب سيف الإسلام الذي ألقاه في 20/8 أغلب الظن لأن أحدا لم يأخذه على محمل الجد في ليبيا، فما بالك بخارجها، مع ذلك فانه يتضمن اشارات جادة لا ينبغي تجاهلها. إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه، فانه يجيء كاشفا عن عمق الأزمة التي يواجهها النظام، الأمر الذي جعله يحتمل كلاما قاسيا للغاية كالذي مررنا به وننحي فيه باللائمة على الفساد والبيروقراطية والقطط السمينة والمافيا الليبية من دون أية إشارة إلى مسؤولية النظام الذي تربى فيه هؤلاء وترعرعوا، وفي إيهام بأن هؤلاء مسؤولون عن مظاهر الفشل والتردي التي عمت البلاد، بما في ذلك تغييب الدستور وإهدار القانون ومصادرة الحريات.

ولا يستطيع قارئ البيان أن يتجاهل دور الأصابع الأمريكية في مشروع التغيير، وهو ما ظهر في الإشارة إلى حماس واشنطن لتطوير التعليم في ليبيا، ومخاطبة العقيد القذافي في هذا الامر، والمنح الأمريكية المقدمة لتشجيع المضي في التطوير (بالمناسبة منذ متى كانت ليبيا النفطية بحاجة إلى منحة حواسيب أمريكية أو خدمة إنترنت مجانية؟).

حين عرضت في اليمن قصة التجديد للرئيس علي عبد الله صالح بعد إعلانه عزوفه عن الترشيح للرئاسة ثم امتثاله مضطرا للجماهير التي جرى تحريكها لمطالبته بالاستمرار في موقعه، كتبت في هذا المكان أن هذا فيلم «شاهدناه من قبل»، هذا التعليق يلح عليَّ الآن بعدما تكررت حكاية الابن الذي يظهر على المسرح السياسي مرتكزا على سلطان أبيه، ليقدم نفسه مصلحا ومجددا وناقدا لسلبيات النظام القائم، لكي يكون ذلك بابه إلى التوريث واستمرار احتكار السلطة في إطار الأسرة؛ وبالتالي، فإنني أعيد التعليق هذه المرة على شعور عميق بالحزن والأسف من جراء ذلك العبث الذي يُمَارَسُ في حلبة السياسة العربية بعدما تحولت اغلب ممارستها إلى أفلام تفتقد المصداقيةَ والجديةَ وبعضها هزليٌّ إلى حد كبير.