وضع عربي مأساوي.. ولحظة عربية مريضة!

TT

كان لا بد من أن تصدر هذه الصيحة من المملكة العربية السعودية، فالوضع العربي مأساوي فعلاً، وشعوب هذه المنطقة باتت في حيرة وارتباك، «بسبب العجز الظاهر في تعاطي حكوماتها مع التحديات»، وهذا يعني أن الأمور ذاهبة نحو الكارثة المحققة، إذا لم تكن هناك وقفة جدية وشجاعة، ليس على المستوى السعودي فقط، وإنما على مستوى العرب كلهم أو على الأقل على مستوى مَنْ منهم تعنيه هذه القضية، وتؤرقه هذه الهموم.

لا بد من وقفة جادة ولا بد من الفرز الصحيح. فالآن وبعد مسيرة طويلة على الطريق الخطأ هناك من أخذ يضع العرب بين خيارين، فإما مع إيران تحت لافتة «الممانعة» والتصدي، وإما مع إسرائيل تحت لافتة الخيانة والتخوين.. إما مناذرة مع الفرس والامبراطورية الفارسية، وإما غساسنة مع الامبراطورية الرومانية، وكأنه لا توجد أمة عربية صاحبة رسالة حضارية إنسانية عريقة، وكأن ليس هناك أكثر من عشرين دولة، وضعت أقدامها على طريق التقدم والرقي، وتحتل موقعاً مرموقاً على الخريطة العالمية.

إن ما أوصل الوضع العربي إلى ما وصل إليه، وغدت حتى الهوية العربية مهددة، هو أن العرب قبلوا بإقحامهم بعد الحرب العالمية الثانية في صراع المعسكرات، وباتوا يصنفون على ان بعضهم «تقدمي»، يدور في الفلك السوفياتي ومحسوب على المعسكر الاشتراكي، بينما البعض الآخر «رجعي»، يدور في الفلك الأميركي ومحسوب على المعسكر الرأسمالي، هذا مع ان ما ثبت في النهاية هو أن التقدمي كان أكثر رجعية من الرجعي، وأن الرجعي كان أكثر تقدمية من التقدمي. ولعل ما زاد الطين بلَّة، كما يقال، ان الحالة العربية ابتليت مع بداية صراع المعسكرات بظاهرة الانقلابات العسكرية، التي زيفت الوعي العربي، وجعلت اغتصاب السلطة بالقوة ومن خلال أبراج الدبابات ثورة، وهكذا ولأن الثورة كالقطة تأكل أبناءها فقد أكلت تلك الثورات نفسها، وأكلت معها الوضع العربي كله، وأدخلت العرب في متاهات مظلمة واستنزفت طاقاتهم، وجعلت اهتماماتهم الأمنية تتقدم على اهتماماتهم التنموية والاقتصادية.

لقد بقيت عواصم الانقلابات العسكرية، تنشغل بانقلاباتها وبمحاولات تصدير هذه الانقلابات الى الدول التي جرى تصنيفها على أنها محافظة و«رجعية»، وموالية للغرب الرأسمالي الاستعماري، وبالمقابل فإن هذه الدول التي جرى تصنيفها على أنها محافظة ورجعية، بقيت مستنزفة بالدفاع عن نفسها، وبقيت تنشغل بصد المؤامرات التي كانت تُصدِّرها إليها الأنظمة التي كانت تصنف على أنها تقدمية وثورية.. واشتراكية وديموقراطية وجماهيرية!!

إن الحالة المأساوية التي يعيشها الوضع العربي الآن، بدأت من هناك وهي حالة كانت تكونت في رحم مرحلة الانقلابات العسكرية، التي لم يقتصر التشويه الذي تسببت به على الدول التي أُبتليت بها، واكتوت بنيرانها بل وامتد الى الدول التي كانت تعتبر مستقرة وهادئة والتي، في حقيقة الأمر، كانت تعيش حالة من الاستنفار المكـُلْف المتواصل لحماية أنظمتها ومجتمعاتها من هذه الانقلابات.

لسنوات طويلة والعرب كلهم في كل دولهم، ينشغلون بتلك الانقلابات العسكرية، وكان الصراع بينهم نتيجة للحرب الباردة ومحصلة لتوزعهم على المعسكرين المتطاحنين يتقدم في معظم الأحيان على الصراع مع إسرائيل، وشرِّ البلية هنا أنه حتى القمم العربية، التي ظهرت الى الوجود مع احتدام هذه الحرب الباردة، قد تحولت الى ساحات مواجهات بين الأنظمة التي كانت تصنف نفسها بأنها ثورية وتقدمية، والأنظمة التي كانت توصف بأنها عميلة ورجعية ومحافظة!! في مرحلة الانقلابات العسكرية والحرب الباردة وصراع المعسكرات، عرفت هذه المنطقة أنظمة الحزب الواحد والقائد الأوحد الملهم، على الطريقة الفاشية والنازية والستالينية، فتعطلت كل محاولات اللحاق بالتجارب الديموقراطية في العالم، وذلك على غرار ما جرى في مصر سابقاً وفي سوريا والعراق وليبيا ودول عربية أخرى، قطع الطرق على محاولاتها الجادة على هذا الصعيد العسكريون، الذين حاولوا تقليد زملائهم في دول الانقلابات العسكرية، ومن خلال الأحزاب التي كانت فروعاً للأحزاب الشمولية القومية التي وصلت الى الحكم في أوقات مبكرة.

إن ما هو قائم في سوريا الآن هو نتيجة تراكمات مرحلة الانقلابات العسكرية التي بقيت مستمرة، والتي استبدلت أبراج الدبابات بأقبية المخابرات وبتزوير القوانين. وإن ما هو قائم الآن في العراق سببهُ ما أورثه إليه صدام حسين ونظامه الذي كان أسوأ الأنظمة التي عرفتها البشرية، وإن انفراط العقد العربي على هذا النحو، هو نتيجة استقواء بعض الدول العربية على الأخ والجار، وتقديم الالتزام المذهبي والطائفي على الالتزام القومي.

عندما يكون الوضع العربي القائم الآن، محصلة لواقع استمر على مدى سنوات النصف الأخير من القرن العشرين كلها، فإنه أمر طبيعي ان يكون الوضع الآن مأساوياً، وأن تكون الهوية العربية مهددة، وأن تكون هذه اللحظة لحظة مريضة، وأن تتعملق إسرائيل على هذا النحو، وان تتحول بعض الأحزاب الى دول داخل دولها، وألا يتردد رئيس عربي في وصف زملائه بأنهم أنصاف رجال، وأن تتصرف دويلة عربية تحولت الى محطة فضائية، كامبراطورية لها حق التدخل في كل شأن من شؤون هذه المنطقة، وشؤون العالم كله. إنها لحظة عربية مريضة بالفعل، وأن هذه اللحظة بدأت مبكراً، وبقيت ترافق العرب حتى بعد رحيل القرن الماضي، وبعد أن بدأت بدايات القرن الجديد، وأن التخلص من هذه الحالة المريضة التي هي سبب احتلال العراق، واستمرار احتلال فلسطين وانتقال «فايروس» الحرب الأهلية من عاصمة الى عاصمة أخرى، حتى وصل الى بغداد، يقتضي وقفة جادة ويقتضي إضاءة ولو شمعة واحدة، بدل الاستمرار بشتم الظلام ويقتضي أيضاً البدء بخطوة عملية، لأن خطوة عملية واحدة، كما قال لينين، أفضل من دزينة من التنظير.

لقد بدأت المملكة العربية السعودية ومعها الأردن ومصر والكويت وقريباً دول عربية أخرى، من بينها اليمن والمغرب والجزائر هذه الخطوة الضرورية والمهمة، والمطلوب هو إعادة الوضع العربي ليقف على قدميه، بدل الوقوف على رأسه، وهو ان تكون هناك مرجعية عربية تضع نهاية لحالة الزعيم الأوحد، الذي يفرض نزواته على الجميع، والتنظيم الواحد الذي لا يتردد عن ارتكاب حماقة ويفرضها على العرب كلهم. ليس المطلوب أن يكون هناك محور مقابل المحور الذي تقوده إيران، بل أن تكون هناك مرجعية عربية، وأن تكون هذه المرجعية صاحبة قرار، فالوضع العربي المشتت والمأساوي بحاجة الى من يلملمه، والى من يخلصه من حالة الارتباك هذه التي يعيشها، والى من لا يجعل خيار العرب إما مناذرة مع الفرس، وإما غساسنة مع الروم.

هناك في الواقع العربي القائم من وجد الفرصة سانحة في ظل الارتباك القائم ليجعل الإصطفاف في هذه المنطقة على أسس طائفية ومذهبية، ويجعل خيار العرب الوحيد هو إما ان يكونوا مع إسرائيل أو يكونوا مع إيران، وهذا ما ازداد وضوحاً خلال الحرب الأخيرة، وما تجسد سياسة رسمية لدولة ترفع شعار: «أمة عربية واحدة»، من خلال خطبة الرئيس بشار الأسد العصماء الأخيرة، التي نثر من خلالها الجمر في اتجاه كل الدول العربية، باستثناء دولة قطر العظمى، التي وصفها في مقابلة تلفزيونية لاحقة، بأنها تتمتع بالمصداقية!!

إن ما يجري في العراق في غاية الخطورة، وإن ما يجري في لبنان لا يقل خطورة عما يجري في العراق، وأن ما هو متوقع أن يجري في سوريا إن هي بقيت تسير في هذا الاتجاه سيكون أخطر كثيراً مما يجري في هاتين الدولتين العربيتين، وأخطر أيضاً مما يجري في فلسطين، ولهذا فإن توجه المملكة العربية السعودية، يجب ألا يتحول الى مجرد صرخة في واد، وهذا يقتضي تحركاً فعلياً وجاداً من قبل كل الدول العربية، التي تشعر بأن ألسنة النيران باتت تقترب من أطراف ثيابها، فالوضع خطير بالفعل والكل مستهدف، وهناك براكين كثيرة نائمة قد يجري إيقاظها في أية لحظة.