لماذا نرجح فتوى على فتوى ؟

TT

كنا قد تحدثنا في المقال الماضي عن بعض مسائل المقاصد المتعلقة بالفتوى، وتحدثنا، فيما تحدثنا، عن نمط من انماط ترجيح الاخذ بالراوية الاضعف على الرواية الاقوى، في الفتوى اعتبارا لقوة المقصد في الوقت الحاضر، وكان التمثيل ببعض مسائل العبادات، والآن ندلف على امثلة في المجال الاقتصادي.

التضخُّم وهو: ارتفاعٌ في الأسعارِ وانخفاضٌ في قيمةِ العملاتِ، ويقولُ عنهُ لاروس الفرنسِي: وضعٌ أوْ ظاهرةٌ تتميزُ بارتفاعٍ عامٍّ دائمٍ متزايدٍ بنسبٍ متفاوتةٍ للأسعارِ انظر في ذلك كتابي «توضيح أوجه اختلاف الأقوال في مسائل من معاملات الأموال» ص149

فما هوَ حكمُ الشرعِ فِي تعديلِ مَا ترتَّب بذمةِ المدينِ للدائنِ فِي حالةِ التضخُّم ؟ مذهبُ الجمهورِ أنْ لاَ عبرةَ بالرَّخصِ والغلاءِ بالنسبةِ لمَا ترتَّبَ مِن الديونِ فِي الذِّمة.

وذهبَ أبُو يوسفَ إلَى أنَّه معتبرٌ ومؤثِّرٌ فيمَا يقضيهِ.

دليلُ الجمهورِ أنَّ المدينَ إذا ردَّ أكثرَ عدداً ممَّا في ذمتِه كانَ ذلكَ مِن قبيلِ الرِّبا بخاصة إذَا كانَ شرطاً أو عادةً. لا يوجدُ نصٌّ فِي الشرعِ بخصوصِ هذِه القضيةِ على هذه الحالة، النصوصُ كلهَا تتعلقُ بالنقدينِ الذهبِ والفضةِ، وهمَا فِي الاستقرارِ يختلفانِ عنِ النقودِ الورقيةِ، وهذا الزمانُ يختلفُ عنْ ذلكَ الزمانِ، فالعملاتُ معرَّضةٌ للتضخمِ أحياناً بسببِ الحروبِ، كالدينارِ العراقِيِّ والليرةِ اللبنانيةِ فِي زمنِ الحربِ، وتارةً بسببِ الكوارثِ، أوْ قراراتِ منظمةِ الدولِ المصدرةِ للنفطِ، أو البنك المركزي إذَا ضخَّ قدراً زائداً مِن العملةِ فِي السوقِ. فالواقعُ قدْ تغيَّر والتضخمُ الجامحُ يجعلُ الدائنَ إذَا أدَّى دينَه بنفسِ العددِ معرَّضاً للخسارةِ.

المقصدُ الشرعيُّ الأعلَى: العدلُ ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ? والمقصدُ الآخرُ: نفيُ الضررِ «لاَ ضررَ ولاَ ضرار». والأصلُ الخاصُّ الذِي يقاسُ عليهِ هوَ الجائحةُ فِي حديثِ مسلمٍ عنْ جابرٍ أنَّ النبيَّ r أمرَ بوضعِ الجوائِح. وعنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ: إنْ بعتَ مِن أخيكَ ثمراً فأصابتْهُ جائحةٌ فلاَ يحلُّ لكَ أنْ تأخذَ منهُ شيئاً، لِمَ تأخذ مالَ أخيكَ بغيرِ حق؟ رواه مسلم وأبو داود ولفظه: من باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئاً على مَ يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم.

التضخمُ إذاً جائحةٌ ؛ النتيجةُ: يجبُ اعتبارُ التضخُّمِ فيمَا يترتُّبُ فِي الذِّمَّة . المجامعُ الفقهيةُ لاَ تزالُ جامدةً علَى الأصلِ العامِّ بأنَّ الديونَ تُقضَى بمثلِها دونَ نظرٍ فِي التقلباتِ، والمسألةُ لاَ تزالُ منشورةً أمامَ مجمعِ الفقهِ الإسلاميِّ الدولِيِّ.

مسألة بيع دين السلم لغير من هو عليه يقولُ الجمهورِ إنَّ ذلكَ لاَ يجوزُ لأنَّه مِن بابِ بيعِ الدينِ فيكونُ مِن بابِ بيعِ مَا ليسَ عندكَ، وذهبَ مالكٌ إلَى جوازِه مَا لَم يكنْ طعاماً بشروطٍ. الجمهورُ استدلُّوا بجملةٍ مِن الأحاديثِ تنهَى عنْ بيعِ مَا ليسَ عندَك، باعتبارِ عمومِ الصيغةِ، أكثرُها فِي الطعامِ، ودليلُهم ليسَ بالقويِّ، وقولُ ابنِ عباسٍ: أحسب أن كل شيء كالطعام. إنَّما هوَ اجتهادٌ منه. المالكيةُ قصرُوا النهيَ علَى الطعامِ، واعتبرَه بعضُهم تعبدياً، كما فِي التوضيحِ، وعلَّلهُ القرافيُّ بأهميةِ الطعامِ والأقواتِ، وأجازُوا بيعَ دينِ السلمِ فِي غيرِ الطعامِ ؛ بناءً علَى عمومِ ?وأحلَّ اللهُ البيعَ? الواقعُ: إنَّ كثيراً مِن الصفقاتِ تُجرى فِي سلعٍ في الذِّممِ كالبترولِ والمعادنِ.

المقصدُ الشرعيُّ: التيسيرُ علَى الناسِ فِي معاملاتِهم وقبولِ أعرافِهم، وأصلُ الأذْنِ. النتيجةُ: جوازُ ذلكَ. ولاَ تزالُ المجامعُ الفقهيةُ غيرَ موافقَة.

مسألةُ تأجيلِ العِوضين

وهيَ مسألةٌ نُقلَ فيهَا الإجماعُ بالتحريمِ، وعلَّل ذلكَ القرافيُّ فِي «الفروق» بأنَّه سببٌ لكثرةِ الخصوماتِ، فمنعَ الشارعُ مَا يفضِى إلَى ذلكَ وهوَ بيعُ الدينِ بالدينِ.

ولاَ يوجدُ نصٌّ قاطعٌ، فحديثُ النهيِ عَن الكالئِ بالكالئِ حديثٌ ضعيفٌ، وقالَ الإمامُ أحمدَ رحمَه اللهُ تعالَى إنَّه لمْ يثبتْ شيْءٌ فِي ذلكَ، إنَّما هُو الإجماعُ. وفي الواقع: أصبحَ الكثيرُ مِن المعاملاتِ الدوليةِ تقوم علَى هذَا النوعِ مِن الديونِ فالبترولُ مثلاً يتعاملُ فيهِ المتعاملونَ أشهراً قبلَ التسليم وبدونِ أنْ يُقدَّمَ الثمنُ ليكونَ سلَماً، وقدْ وُضعتْ أدواتٌ تمنعُ الخصوماتِ وتضبطُ المعاملاتِ والناسُ بحاجةٍ إلَى مثلِ هذِه العقودِ لأنَّ نظامَ التعاملِ العالميِّ يفرضُها.

أمَّا الإجماعُ فقدْ نُقل فِيه قولُ سعيدِ بنِ المسيبِ بجوازِ تأجيلِ البدلينِ، وسعيدٌ رضيَ اللهُ عنهُ مِن أعلم التابعينَ بالبيوعِ حسبَ عبارةِ ابنِ تيميةَ وخيرِ التابعينَ كمَا رُويَ عنْ أحمدَ. ومذهبُ سعيدٍ تلوحُ أقباسٌ منهُ فِي مذهبِ مالكٍ الذِي جوَّزَ تأخيرَ رأسِ مالِ السلَمِ لثلاثةِ أيامٍ بشرطٍ وبدونِ شرطٍ إلى حلولِ أجلِ المسلَمِ فِيهِ.

أفلاَ يجوزُ أنْ نقولَ مِن بابِ رفعِ الحرجِ بجوازِ ذلكَ اليومَ ؛ بناءً علَى مقصدِ انقضَى ومقصدٍ تأكَّد. وهناكَ مسألةُ «الضمانِ بجُعل» الذِي حُكيَ الإجماعُ علَى تحريمِه لأنَّ الضمانَ يجبُ أنْ يكونَ قربةً، معَ أنَّه لاَ يوجدُ نصٌّ مِن كتابٍ أوْ سنَّة يحرمُ ذلكَ، وقدْ أصبحتْ ضماناتُ البنوكِ مأجورةً. ويمكنُ إعادة النظرِ فِي كلِّ المعاملاتِ التِي لاَ تشتملُ علَى أحدِ مفسداتِ البيعِ الثلاثةِ التِي قالَ عنهَا ابنُ العربِي: القاعدةُ الثانيةُ: الفسادُ يرجعُ إلَى البيعِ مِن ثلاثةِ أشياءَ: إمَّا مِن الربَا. وإمَّا مِن الغررِ والجهالةِ. وإمَّا مِن أكلِ المالِ بالباطلِ . ابن العربي القبس 2/787

فقه الأقليات

المرأةُ تسلمُ وزوجُها نصرانيٌّ: فمذهبُ الجمهورِ فسخ النكاح ؛ إمَّا فوراً أوْ بعدَ انقضاءِ العدَّة ؛ الدليلُ آيةُ الممتحنةِ ?فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ?

وثبتت رواياتٌ عن أميرَيِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ وعليِّ بنِ أبِي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُما يقرانهِما علَى النكاحِ، وهيَ رواياتٌ صحيحةٌ، ومنهَا قولُ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ هو أحقُّ ببضعِها مَا دامتْ فِي مصرِه، وكذلكَ يَرَى الزهريُّ، ويرَى تقيُّ الدينِ بنُ تيميةَ بقاءَ النكاحِ مَا لمْ يفسخْ علَى أنْ لاَ يقربهَا. الدليلُ قضيةُ زينبَ بنتِ رسولِ اللهِ r ردَّها لأبِي العاصِي بالعقدِ الأوَّلِ علَى الصحيحِ.

آيةُ الممتحنةِ تتعلقُ بحالةٍ خاصةٍ فِي نساءٍ خرجنَ فراراً بدينهِنَّ مِن دارِ الحربِ. خصوصُ السببِ قدْ يمنعُ عمومَ الحكمِ عندَ بعضِ علماءِ أصولِ الفقهِ. نصَّ عليهِ المازري فِي شرحِ البرهانِ وغيره. فيكونُ النكاحُ نكاحاً جائزاً غيرَ لازمٍ. الواقع: نساءٌ يسلمنَ فِي الغربِ تحتَ أزواجٍ غيرَ مسلمينَ، أحياناً كباراً فِي السنِّ وقدْ يتبعُ الرجلُ زوجتَه فِي الإسلامِ، فإذَا فُرضَ عليهِما الفراقُ فقدْ ترتدُّ كمَا وردَ فِي سؤالٍ مِن أمريكَا بهذَا المعنَى. الجديدُ هوَ تواصلُ العالمِ وانتشارُ الإسلامِ بحمدِ الله تعالَى وبخاصَّة بينَ النساءِ.

المقصدُ الشرعيُّ: التيسيرُ والتبشيرُ. والمحافظةُ علَى الدينِ مقصدٌ أعلَى، وعدمُ التنفيرِ. وقدْ انتبهَ لهذَا المقصدِ ابنُ تيميَّة عندما قالَ: إنَّه يكفِي تنفيراً أنْ تعلمَ أنهَا ستفارقُ زوجهَا إذَا أسلمتْ. النتيجةُ: جوازُ بقائِها معَ زوجِها. وكانَ هذَا قرارُ المجلسِ الأوربِّي للبحوثِ والإفتاءِ خلافاً للمجامعِ الفقهيةِ الأخرَى. والقائمةُ طويلةٌ: منْها اشتراءُ بيوتٍ فِي الغربِ بقروضٍ مِن البنوكِ اعتماداً علَى مذهبِ أبِي حنيفةَ والنخعِيِّ.

وهناكَ قضايَا جديدةٌ كالاشتراكِ فِي الانتخاباتِ فِي الغربِ، وأنواعِ المعاملاتِ، وجواز تهنئةِ غيرِ المسلمينَ وعيادتِهم وتعزيتِهم ؛ اعتماداً علَى الروايةِ الثالثةِ فِي مذهبِ الإمامِ أحمدَ، والتِي أيَّدها ابنُ تيميةَ للمصلحةِ كمَا فِي الإنصافِ للمرداوِي. ولهذَا فإنِّي أدعُو إلَى مراجعةِ الفتاوَى وضبطِها بمعيارٍ ثلاثيِّ الأضلاعِ، يقومُ علَى فحصِ الواقعِ لوزنِ المشقَّةِ والحاجةِ التِي تطبعُه، وتقويمِ العناصرِ المستحدثةِ، ثمَّ البحثُ عَنْ حكمٍ مِن خلالِ النصِّ الجزئِيِّ الذِي ينطبقُ عليهِ إذَا وُجدَ، مَع فحصِ درجتِه ومرتبةِ حكمِه، ثمَّ إبرازُ المقصدِ الشرعيِّ كُلياً أو عاماً كقصدِ التيسير مثلاً، أو خاصاً بالبابِ الذي يَرجعُ إليه الفرعُ، ومنْ خلالِ هذَا المعيارِ الدقيقِ تصدرُ الفتوَى التِي هيَ صناعةٌ مركبةٌ وليستْ بسيطَةً.

بالإضافةِ إلى شرطٍ رابعٍ خارجَ المُعادلةِ لكنَّهُ من لوازمها وهو أنَّ مُهندسَ هذه العمليةِ الذي يُقررُ النتيجةَ يجبُ أنْ يكونَ مُرتاضاً في الشَّريعةِ بصيراً بالمصالحِ المُعتبرةِ فيها مُتمرِساً بتوازُنات مَنظُومَتِها، وقد آثرنا مُصطلح الارتياض على مصطلح الاجتهاد لئلا نصطدم بشروط الاجتهاد الصعبة التحصيل من جهة ولتسهيل الإفتاء في هذه القضايا إذا ضبطت بمعاييرها، وهي كلمة استعملها المالكية في مسألة تمييز المصالح والاعتماد على المقاصد.

إذْ أنَّ إهمالَ أيٍّ مِن هذِه العناصرِ قدْ يؤدِّي إلَى كارثةٍ اقتصاديةٍ أوْ اجتماعيةٍ أوْ سياسيةٍ، وذلكَ مخالفٌ لروحِ الشرعِ وميزانِ العدلِ والإحسانِ ?وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ?

كمَا أدعُو إلَى تكوينِ فقهاء مقاصديِّينَ فِي دوراتٍ مكثفَّةٍ تتَّسمُ بروحِ الجديَّةِ والانفتاحِ والتواضعِ لتحصيلِ العالِمِ المرتاضِ فِي معانِي الشريعةِ.