رجال القلائد

TT

فقدنا في العالم العربي شيئا اسمه الوسطاء. وهذه أصعب وأرقى مهنة في السياسة لأنها مهمة وليست احترافا. والوسيط رجل متوازن وعاقل وعادل يثق به المتخاصمون. وعندما يراه الغاضبون يهدأون. وعندما يصافحه الضعفاء يشعرون بالطمأنينة، لأن عدالته ضمانة وكلمته قسم ومعرفته موضوعية. لقد ولى زمن الوسطاء ولم يعد لهم مكان. وتخطت أحوالنا السياسية وقضايانا، آداب وأخلاق هؤلاء السادة.

هؤلاء فئة من الرجال تفوق أحجامهم أحجام بلدانهم أو تعادلها. وهؤلاء ثقافة تاريخية ومعرفة وحضور يفرض احترامه عند كل الناس. واليوم يتساءل المرء ماذا حدث لذلك الجيل وتلك المرحلة، ولماذا نحن هنا، ولا صوت هادئا بيننا؟ أين هم أولئك الصابرون المؤدبون الديبلوماسيون الحكماء، الذين كانوا يتحدون أعقد القضايا وأكثرها عناء وصعوبة؟ لماذا بُلينا بالمزعقين ولا أفق ولا نهاية ولا أمل؟

عندما وصلت حرب استقلال الجزائر إلى ذروتها شعر ديغول بأنه في حاجة إلى وسيط. لا شيء آخر. وشعر الجزائريون بالتعب بعد مليون شهيد. ولكن أمام مَن كان يمكن لديغول أن ينحني، طالبا التوسط. سأل صديقه آنذاك محمد المصمودي، وزير الإعلام التونسي. قال له، فرنسا تريد الحوار مع فرحات عباس لكنني لا أريد أن يشعر الفرنسيون أنني أضفت إلى هزيمتهم.

كان محمد المصمودي واحدا من عرب قلة على صداقة مع زعيم فرنسا التاريخي. وكان يصغي إليه. وكان يسميه «صديقي العزيز محمد». ولما سأله رأيه قال المصمودي، «هذه مسألة أكبر مني بكثير. أنا فقط أمهّد. لكن يجب أن يشعر المحاربون الجزائريون أنك أرسلت إليهم اقرب مناضل عربي لديك وليس اقرب صديق عربي! واقترح المصمودي أن يكون بورقيبة هو الرجل. وعندما خرج بورقيبة من الاليزيه بعد تلك الزيارة العاجلة العام 1961 أدرك ديغول أن الطريق إلى الحل قد بدأ. بعد سنوات طويلة من الحرب حان وقت الجلوس إلى طاولة واحدة والبحث في علاقة المستقبل. ولم يكن الأمر سهلا. التحدي، كان مهنة الحكماء.