من رجم محفوظ .. إلى المشي في جنازته

TT

يوم قلد الروائي نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب تسابق بعض الكتاب الى شتيمته مدعين انه لا يستحقها وأنها رشوة سياسية للمثقفين المصريين.

تردد ذلك بصراحة غير مألوفة حتى في دوواين الصحافة الناقدة التي اعتادت على لباس الوقار حتى عند الاختلاف. قالوا انه منح الاعتراف بالعالمية فقط لأنه مصري ارضاء لروح الرئيس المصري انور السادات الذي منح ايضا نوبل للسلام، مع ان عشر سنين تقريبا فصلت بين الجائزتين، ومع انه كتب كل رواياته قبل كامب ديفيد، وبدأ كتابة رواياته قبل ان توجد اسرائيل نفسها.

أعمت الغيرة والحسد والمواقف السياسية اهلها عن حقيقة ان العالم العربي لم يعرف روائيا بقامة نجيب محفوظ، سواء كان هناك رئيس مصري اخذ نوبل او وجد اسرائيليون متنفذون في لجنة الجائزة، او غيرها من الترهات.

الحقيقة الأخيرة قالها في «ثرثرة فوق النيل» «ما قيمة أن تبقى أو أن تذهب، أو أن تعمر كسلحفاة؟». قيمة نجيب محفوظ وقد غادرنا ونقاده غادروا الساحة، أن رواياته ظلت تباع على الأرصفة في بغداد ودمشق وعمان والجزائر والدار البيضاء ولم تتأثر شوارعها وناسها بالحملة ضده. رحل وبقيت اعماله الأدبية شبه الوحيدة العربية التي تباع في مكتبات العالم وبكل اللغات.

ورغم كل شيء، لنتذكر ان محفوظ لم يدافع عن نفسه، ولم يطالب ان يرد له اعتبار عما لحق به من اساءات وحتى محاولات قتل بل كان اكبر منهم جميعا. والمشهد الأخير كان سوريالياً، فقد سار في جنازته اصوليون متطرفون، وقوميون فاشيون، وواقعيون استسلاميون وأناس كثر بلا لون او حقد او حتى رأي سياسي، بل اصحاب ذوق فني. كلهم عاشوا حياة روايات محفوظ او تربوا في بيئتها بشكل أو آخر.

وحتى نفهم سر الجدب في سوق الرواية العربية اليوم، رغم ازدهار آلات القراءة وسهولة الطباعة وانتشار الآداب المترجمة وارتفاع عدد المتعلمين، سنجد السبب في تاريخ الرواية مع نجيب محفوظ نفسه. فقد بدأ رحلته مع الخيال الادبي عام 1936 حيث كانت الحريات في اقصاها، وانتهت الى ما نحن عليه اليوم حيث اصبحت الحرية الابداعية تحبس في قفص صغير رغم المجال التقني الرحب. صدرت روايات بلا اسماء حقيقية وصدرت روايات مختصرة رقابيا، وفضل كثيرون من المؤلفين الاحتفاظ بمسودات رواياتهم في بيوتهم خشية الأذى. ففي سوق الأدب يعيش اهله في خوف ليس من الحكومات فقط، بل ايضا من المجتمع الذي زاد تعصبا، ومن المثقفين الذين صار همهم حرق السحرة والساحرات والتنديد بكل تعبير حر.

محفوظ محظوظ لأنه لحق بآخر سنوات كانت فيها للأدب والرسم والتلوين والنحت والقول والتمثيل مساحة من التعبير ، قبل ان يقضي عليها التطرف السياسي والديني والاجتماعي، الرسمي والشعبي، المثقف والأمي او كما سماه بنسيج العنكبوت.

[email protected]