المطلق السياسي والمطلق الديني

TT

كتب إلي أحد الأصدقاء معلقا على مقالي الأخير بـ«الشرق الأوسط» حول إشكالية الولاء للوطن أو العقيدة: ألا يؤدي القول بحيادية الدولة اتجاه العقيدة إلى السقوط في التصورات العلمانية، في حين أن الإسلام دين شامل لكل شؤون الحياة، لا فصل فيه بين الدين والسياسة ؟

أعدت طرح السؤال على فقيه تقليدي من ديارنا، لم يألف مفردات الخطاب الإسلامي المعاصر فرد علي بالقول: «إن نعت الإسلام بأنه دين سياسي بدعة عظيمة لم يقل بها أحد من علماء الأمة الأوائل.. فالمقبول فقط هو نصب الإمام لإقامة شرائع الدين وحماية البيضة، أما الدولة بصفتها الحالية فلا أعرف لها أصلا شرعيا، بل هي من أمور النصارى والإفرنج التي ابتلي بها المسلمون ,,.

وبالرجوع إلى الفكر الإسلامي المعاصر، نلمس اتجاهات ثلاثة متمايزة في النظر للمسألة، على الرغم من التشابه الظاهر في الموقف:

* اتجاه يحصر نموذج الدولة الإسلامية في أشكالها التاريخية أي دولة الخلافة والدولة السلطانية بالاستناد إلى المرجعية الفقهية الوسيطة.

* اتجاه يسعى إلى أسلمة الدولة الوطنية الحديثة، أي إضفاء الشرعية الدينية على هياكلها المؤسسية البيروقراطية، مع تصويب منظومتها القيمية التشريعية.

* اتجاه يتبنى الدولة الحديثة ونمط العقلنة السياسية التي تقوم عليها من منطلق تصورها الإجرائي الأداتي الذي لا يتناقض جوهريا مع المرجعية الإسلامية، بل يقبل شتى المقاربات القيمية.

والواقع أن الفرق شاسع بين هذه التصورات الثلاثة، في منحيين بارزين على الأقل:

أولهما: طبيعة الدولة ذاتها: هل هي إمامة شرعية أم أداة تنظيم إجرائية أم تجسيد لقيم جماعية مشتركة ؟

ثانيهما: طبيعة علاقة الدين بهذه الدولة: هل هي نظامه المؤسسي الذي لا هوية لها خارجه أم هي نظام بشري تحكمه قيم دينية أم أداة تنظيم اجتماعي له منطقه الداخلي الذي لا يتعارض مع أي منظور ديني أو عقدي.

إن هذا التباين الواضح في النظر الى الدولة ولعلاقتها بالدين يترجم عقدة نظرية مستحكمة في الفكر الإسلامي، ترجع حسب اعتقادنا إلى العجز عن ضبط التحولات الفكرية والمجتمعية الهائلة التي غيرت جذريا شكل الدولة وعلاقتها بالنظام الاجتماعي في العصور الحديثة.

ولاشك أن إشكال العلمانية حجب بشكل واسع الرهانات الفعلية للمسألة الدينية ـ السياسية في الحقبة المعاصرة ، باختزالها في العلاقة بين المؤسستين الدينية والسياسية. ولذا تحول الصدام بين العلمانيين والإسلاميين، إلى صراع وهمي حول مرجعية الدولة، هل هي الدين أو الأمة دون الوقوف عند الأسئلة الموضوعية التي يطرحها مسار نشأة الدولة الحديثة على الدين نفسه من حيث هو منظومة عقدية سلوكية وليس مجرد مؤسسة سياسية.

إن مصدر الإشكال هنا هو أن الدولة المعاصرة قامت على ديناميكيتين متعارضتين هما: من جهة السعي لتعويض الدين في وظيفته الرمزية القيمية بإنشاء منظومة ولاء روحية وسلوكية هي روح المواطنة من حيث هي انتماء للمطلق الجماعي، ومن جهة أخرى القطيعة مع التصورات المعيارية الأخلاقية للشأن السياسي، أي تحويله إلى فضاء تعايش تحكمه قواعد إجرائية تنظيمية تتأقلم مع كل المشاريع المجتمعية وشتى التصورات القيمية.

وقد انتبه فلاسفة التنوير والحداثة إلى هذا التعارض وحاولوا حسمه في اتجاهات متباينة، ليس هذا مجال تناولها .

وتجدرالإشارة إلى أن هذا التعارض يشكل جذر العقل السياسي الحديث، ولا بد من الوعي به في النظر للمسألة الدينية السياسية التي عرفت من هذا المنظور صياغتين متمايزتين:

* الصياغة اللائكية (على الطريقة الفرنسية) أي الفصل الجذري بين المؤسسسة السياسية والمؤسسة الدينية، والبحث عن قيم جماعية بديلة عن القيم الدينية (أي وضع ديانة مدنية بديلة حسب مشروع كوندورسية ـ أوغست كونت).

* الفصل الإجرائي بين المؤسستين الدينية والسياسية، مع الابقاء على الدين قاعدة مرجعية محورية للقيم الجماعية وإطارا أساسيا من أطر المجتمع المدني (التجربة الأمريكية).

ومن المفارقات المثيرة أن الخطاب الإسلامي المشترك لم يتمكن من الخروج عن الاعتبارات الأيديولوجية التفصيلية التي طرحها الإشكال السياسي ـ الديني في التجربة الغربية. أي بعبارة أخرى، انه لم يدرك الرهانات العميقة المتعلقة بالسمة المزدوجة للدولة في طموحها الأقصى كرحم انتماء جماعي وفي طموحها الأدنى كأداة تنظيم إجرائي.

ولذا يتأرجح بين رفضها من منظور طوبائي (دولة الخلافة التي هي شكل تاريخي متجاوز) أو قبولها بصفتها وسيلة إقامة الدين.

ولاشك أن التفكير الجدي في المسألة الدينية ـ السياسية يقتضي الانطلاق من مقدمتين محوريتين تؤطران أي معالجة رصينة في السياق الإسلامي الراهن.

أولاهما: الانفصام القائم في التقليد الفكري الإسلامي الوسيط بين طوبائية الخلافة (أي النظام السياسي المجسد لقيم الدين ومسلكياته التي لا يمكن أن تتحقق إلا في ظروف استثنائية تتخذ شكل معجزة سماوية أو هداية ربانية) وحكم التغلب والقوة وهو الشكل السائد للحكم الذي يتعين التأقلم معه وعدم الخروج عليه خوفا من الفتنة. وكما يبين عبد الله العروي فإن فكرة الدولة بصفتها تجسيدا للعقل والأخلاق لا أثر لها في الفكر الإسلامي الوسيط الذي «يتضمن أخلاقيات واجتماعيات، لكنه لا يتضمن نظرية الدولة».

ثانيتهما: الانفصام القائم في التقليد الفكري الغربي الحديث بين المقاربة المعيارية للشأن السياسي (أي النظر إليه بصفته الحيز الجديد للمطلق الجماعي) والمقاربة الإجرائية الأدائية (الدولة كجهاز تمثيلي وتنفيذي).

فالمقاربة البديلة لا يمكن أن تكون تحويل السياسي إلى مطلق ديني بتوهم تعويض المطلق السياسي بالمطلق الديني.