إسرائيل هي التي دمرت .. فلماذا نحاسب الآخرين؟

TT

تواصل إسرائيل منذ أشهر عملية اجتياح وقتل وتدمير لقطاع غزة ومدن فلسطينية في الضفة الغربية، وسط جو من الصمت الدولي يثير الدهشة.

التدمير الإسرائيلي في فلسطين هو مشابه ومكمل للتدمير الإسرائيلي في لبنان، حيث الشعار المعلن هو القضاء على حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني، بينما الهدف الحقيقي هو استيعاب فلسطين سياسيا، واستيعاب لبنان سياسيا، ليصبحا جزءا من الشرق الأوسط الجديد الذي تدعو إليه الولايات المتحدة الأميركية. ويتم في الحالتين استعمال إسرائيل لتكون هي القوة الضاربة من أجل دفع الأوضاع في البلدين نحو الهدف الأميركي المنشود.

لقد اتخذ التنفيذ في فلسطين أسلوب التجويع والحصار المالي للشعب الفلسطيني، تحت ستار عدم التعامل مع حكومة اسماعيل هنية. واتخذ التنفيذ في لبنان أسلوب التدمير الشامل للبنية التحتية للدولة، مع التركيز على تدمير مناطق سكن الطائفة الشيعية، من شمال لبنان إلى جنوبه، لإيجاد هوة اجتماعية ومصلحية ونفسية بين الحزب والطائفة الشيعية، وتحت ستار أن تدمير حزب الله سيؤدي إلى تقوية الحكومة اللبنانية. ولكن الحكومة اللبنانية نفسها لم تستطع قبول هذا المنطق فقال رئيسها فؤاد السنيورة إنه لا يمكن بناء دولة على كومة من الأنقاض.

العجيب في هذا الأمر، أنه في كل من فلسطين ولبنان، تبرز أحزاب وهيئات وصحف وأفراد، يتحدثون عن الأزمة، ويلقون اللوم في فلسطين على حكومة اسماعيل هنية، ويلقون اللوم في لبنان على حزب الله، ويتجاهلون أن إسرائيل هي الجهة التي تحاصر، وهي الجهة التي تدمر، وهي الجهة التي تقتل. فلماذا هذا الإصرار على الصمت تجاه إسرائيل؟

لقد ارتفعت أصوات عربية وعالمية تطالب بمحاكمة إسرائيل على ما فعلته في لبنان وفلسطين باعتباره جرائم حرب، ولكن أحدا لم يكترث لهذه الأصوات. وارتفعت أصوات عربية وعالمية تطالب إسرائيل بأن تتحمل مسؤولية جرائمها، وتطالبها بالتعويض للشعبين اللبناني والفلسطيني عن الخسائر التي تسببت بها، ولكن أحدا لم يكترث لهذه الأصوات. ويتم الحديث عن عكس ذلك، بأن الدول العربية، وبأن المجتمع الدولي، هو الذي سيتولى مسؤولية تعمير لبنان ومساعدة الفلسطينيين، وهكذا تنشأ حالة فريدة من نوعها: إسرائيل تدمر والعرب يدفعون ثمن إعادة التعمير. فهل هذه هي السياسة التي ستسود في المنطقة العربية، وفي معالجة الصراع العربي ـ الإسرائيلي؟

إن الشكر واجب لكل من يقدم مساعدته للبنان أو لفلسطين، وهو أمر واجب. ولكن لماذا لا تقترن هذه المساعدة بمسعى سياسي قوي ومكثف يطالب بمحاسبة إسرائيل وتدفيعها ثمن جرائمها؟

حين وصل كوفي أنان إلى لبنان، استقبلته إسرائيل بالإعلان عن رفض إلغاء الحصار البحري والجوي الذي تفرضه على لبنان، وهو حصار وصفه أنان بأنه مذل، وأنه يشكل خرقا لقرار مجلس الأمن 1701. وحين وصل كوفي أنان إلى فلسطين، استقبلته إسرائيل بمذبحة في حي الشجاعية في غزة أسفرت عن 20 شهيدا، عدا عن دمار كبير رافق عملية استمرت خمسة أيام. واستقبلت أنان وزارة الصحة الفلسطينية بتقرير ذكر أن شهداء قطاع غزة منذ أواخر شهر حزيران/ يونيو الماضي بلغ 225 شهيدا بينهم 62 طفلا و 25 امرأة. وهو لم يفعل سوى أنه طالب بالإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليت، مع إشارة خجولة إلى ضرورة فتح معبر رفح أمام السكان وأمام البضائع. والمؤسف أن هناك أطرافا لبنانية وفلسطينية تسكت عن الجرائم الإسرائيلية التي تطال شعبا بأكمله، لتقول في لبنان: هل يستحق خطف جنديين كل هذا الثمن من الخراب؟ ولتقول في حالة فلسطين: هل يستحق خطف جندي كل هذا الثمن من الشهداء؟ ألم يكن حريا بأصحاب هذا المنطق أن يعلنوا عن استنكارهم لهذا النهج الإسرائيلي الذي يرد على عملية محدودة بحرب شاملة؟

لقد لجأت إسرائيل في فلسطين إلى استخدام كل ما هو خارج حتى عن قوانين الحروب، هذه القوانين التي تمنع إتلاف الأراضي (التجريف)، وتمنع الاغتيال، وتمنع القنص الذي هو آخر تقليعة عسكرية إسرائيلية. وهذه كلها جرائم حرب يمكن محاكمة إسرائيل عليها لو وجد من يطالب بهذه المحاكمة، ولو وجد من هو مستعد لاستضافة محاكمتها. ولكن المخزي بدلا من ذلك، أن هذه الجرائم تنسى، ولا يتم الحديث إلا عن خطف الجنود.

لقد استيقظ ضمير كاتبة إسرائيلية (عميرة هاس ـ هآرتس) فكتبت تذكر الإسرائيليين بالقوانين التي تسنها حكومتهم ضد الفلسطينيين من سكان دولتهم، والتي تمارس، حسب تعدادها هي:

* سن قوانين قائمة على التفرقة والتمييز العنصري، والتي لن يحصل عرب الجليل بسببها على تعويضات مساوية لما سيحصل عليه جيرانهم اليهود عن أضرار الحرب.

* سن قانون يحظر على العربي في إسرائيل العيش مع أسرته في منزل واحد.

* سن قانون يؤيد مصادرة الأراضي واجتثاث أشجار وبيارات، من أجل إنشاء حي جديد للمستوطنين، وشق شارع لليهود وحدهم.

وهي تخاطب الإسرائيليين قائلة: هل يعقل أن تؤيدوا كلكم إطلاق القذائف والصواريخ التي تقتل الشيوخ والأطفال في غزة؟ هل يعقل أن توافقوا كلكم على أن يكون ثلث الضفة الغربية (غور الأردن) محظورا على الفلسطينيين؟ هل يعقل أن تؤيدوا السياسة الإسرائيلية التي تمنع عشرات آلاف الفلسطينيين من حملة الجنسيات الأجنبية من العودة لزيارة عائلاتهم؟ هل تم غسل أدمغتكم بالذرائع الأمنية إلى حد قبول منع طلاب غزة من الدراسة والعمل في الضفة الغربية، أو منع المرضى من رفح من الحصول على العلاج في رام الله؟ وتنهي الكاتبة مقالها داعية الإسرائيليين إلى العمل من أجل وقف القمع الإسرائيلي «الذي لا يشبع بالمرة» حسب وصفها. لقد وجدت عميرة هاس الوقت الكافي لتتحدث عن أفعال إسرائيل وسياساتها اليومية ضد الفلسطينيين، لم يشغلها حزب الله عن ذلك، ولم يشغلها خطف الجنود عن ذلك، بينما ينسى سياسيونا ونقابيونا وصحافيونا كل ما تفعله إسرائيل ليقولوا بأن خطف الجنود هو سبب كل مآسي اللبنانيين والفلسطينيين. وقد آن الأوان لكي يتغير هذا المنطق المقلوب.

أخيرا ... تشهد فلسطين الآن مظاهرات عمال وموظفين ومدرسين، تحتج على عدم تأمين رواتبهم من قبل حكومة اسماعيل هنية. وهذه مطالبة مشروعة، لولا أن نقد الناطقين باسمهم ينصب على الحكومة ولا ينصب على إسرائيل. ينصب على الحكومة ولا ينصب على الحصار. وقد عاد هذا الموضوع ليصبح أداة من أدوات الصراع لإسقاط حكومة حماس. ولكن لو تصورنا أن حكومة حماس قد استقالت، فماذا سيحدث بعد ذلك؟ في أحسن الأحوال ستدفع أوروبا الأموال، وتسير ماكينة الحكم الذاتي إلى الأمام، أما بعد ذلك فإن العربة ستتوقف، ستتوقف أمام التسوية السياسية التي لا تريدها إسرائيل إلا على هواها، لينشأ نوع من الحكم الإداري (على غرار «روابط القرى» في الثمانينات)، يعمل لدى الاحتلال، ويحل مشاكل الاحتلال، ويتقاسم السلطة مع الاحتلال (رفضه الملك حسين عام 1974)، فتتولى إسرائيل شؤون الأمن والمياه والحدود والمعابر، وتتولى الإدارة الفلسطينية شؤون الناس اليومية. فهل هذا هو ما يتطلع إليه العاملون من أجل إسقاط حكومة حماس؟

إن البديل هو التعاون والتكاتف من أجل رفع الحصار، الحصار الأميركي والأوروبي والإسرائيلي.

إن البديل هو في تطوير تعاون فلسطيني ـ عربي يضغط بهذا الاتجاه.

إن البديل هو في وضع خطة تنمية فلسطينية تنهي تدريجيا الحاجة إلى دعم الدول المانحة.

إن البديل هو في إلغاء الاتفاق الاقتصادي الموقع عام 1993 والذي ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وقطع كل صلة له مع الاقتصاد العربي.

إن البديل هو في وضع خطط لتطوير الزراعة الفلسطينية، والصناعة الفلسطينية، وعدم التركيز، كما هو حاصل الآن، على التبادل التجاري مع إسرائيل فقط. ولكن شرط ذلك كله هو في وجود سلطة فلسطينية (رئاسة وحكومة) تطلب هذا الأمر وتسعى إليه. أما في وجود سلطة لا ترى إلا شروط الدول المانحة، ولا تناقش مع حماس إلا القبول بشروط الدول المانحة، فإن الأزمة ستبقى قائمة من دون حل.