نجاح المصالحة وقوة الدولة

TT

لم تكن الأحداث الدامية التي شهدها الشارع العراقي الأسبوع الماضي بمعزل عن انعقاد أولى الخطوات العملية لتفعيل مبادرة المصالحة والحوار الوطني. أما الصورة التي ترسمها الحكومة للمواطن لما يجري من احداث، فإنها لا تقفز على واقع العنف الدموي، بل تتعامل معه وتحاول كشف الحيثيات التي تدفع الجماعات الإرهابية الى تصعيد وتيرته بين الحين والآخر، بسعيها الى اغتنام الفرص من اجل إجهاض أي مشروع يجمع العراقيين في خندق واحد للتصدي لها. فالملاحظ أن استراتيجية الجماعات التكفيرية والتهديمية في العراق، ومنذ ان بدأت أولى نشاطاتها الإجرامية فيه، بنيت على أساس التصعيد الميداني المتزامن مع أية مبادرة أو مشروع يرمي إلى ترسيخ إجماع وطني وخطاب وطني موحد ازاء ما عاشته وتعيشه البلاد من كوارث ومحن، او بإجهاض ممكنات التوصل عبر تنازلات منطقية متقابلة لحلول من اجل ايقاف دوامة العنف والتخريب والدمار، واطلاق عجلة الاستقرار والتنمية المعطلة والمتعثرة، بفعل كوابح العقول المتحجرة والتي لا تمتلك أجسادها البائسة غير الأنياب والمخالب الملطخة بدماء الأبرياء من أبناء هذه الشعب الصابر، والممتحن ببلاء الإرهاب التكفيري ومخططه الرامي بحلقته الأخطر الى تقطيع أواصر الأخوة والوحدة الوطنية، وهما السبيل الى تحرير الوطن من أي نفوذ أجنبي.

لكن هل من الممكن ان تعقد الآمال جميعها على استقرار الوضع الأمني، الذي هو مفتاح حلول بقية الأزمات، وعلى مبادرة المصالحة الوطنية والتي بدأت تأخذ اطاراً مرجعياً لتحركات الحكومة في مختلف الأصعدة. ولعل هذه المبادرة التي تسعى حكومة المالكي الى تأطيرها بإطار مجتمعي، يضم مختلف شرائح المجتمع العشائرية والسياسية بمضامينها وآليات تفعيلها، ستكون هي السبيل الى تقوية شوكة الدولة التي أصبحت جميع الأطراف على قناعة تامة ان نهاية الوضع المأساوي، الذي تعيشه البلاد لن يكون بدونها. إلا أن أخطر ما يمكن ان يتعرض له مشروع المصالحة هو محاولة التسويف والمماطلة في الالتزام أو بالنظر بجدية الى التوصيات التي ترفع من قبل مؤتمرات المصالحة، ومنها مؤتمر شيوخ العشائر الذي انعقد الأسبوع الماضي، والذي سيعقبه مؤتمرات لشرائح اخرى. هذا المؤتمر أوصى بضرورة تحريم الدم العراقي وحل الميليشيات، واعادة تقييم عمل هيئة اجتثاث البعث وتأجيل العمل بمشروع الفيدرالية، الى ان يحظى باجماع وطني، وهو على ما يبدو سائر في طريقه الى الحصول على هذه الاجماع، لاسيما ان بعض الاطراف السنية الرافضة لمشروع الفيدرالية، أخذت تفكر بالموضوع بعدما لاح في الأفق السياسي لديها، عدم إمكانية إدخال أي تعديلات على الدستور الدائم فيما يتعلق بموضوع الفيدرالية، في حين لم يبق لها متسع من الوقت لإقناع الأصوات المترددة في كتلة الائتلاف بالوقوف ضد هذا المشروع، سواء لعجزها عن تقديم اي بوادر جدية على تحسن الوضع الأمني، او بالبرهنة على قدرتها على تحشيد مناطقها للانقلاب على بنية العنف، لاقناع شركائهم في الوطن بجدية نواياهم، وبأنهم في مركب واحد يستدل بنفس النجم. وآنذاك لن يعود أمام القوى السنية الا تعبئة وتثقيف شارعها للقبول بالفيدرالية، كحل انسب للحفاظ على وحدة البلاد وترسيخ دعائم دولة قوية امنياً واقتصادياً. وهنا ينبغي الإشارة ان الأيام والأشهر القليلة المقبلة، حبلى بأحداث وتطورات سياسية ربما تعرقل مشروع المصالحة، وقد تدفع به باتجاه النجاح. فمنهج الحوار والنقاش والتوافق بين المكونات العرقية في كركوك على سبيل المثال، يبدو غائبا رغم تشكيل مجلس الوزراء لجنة تتولى مهمة تطبيع الأوضاع فيها وتنفيذ المادة 140من الدستور، تزامناً مع اقتراب المواعيد التي الزم المالكي بها نفسه لحل مشكلتها المعقدة، والتي يبدو ان تركيا قد عقدت العزم على ان يكون لها دور وضغط مباشر في حسمها، بما يطمئن المخاوف التركية من امكانية ضمها الى اقليم كردستان، أو لجهة نشوء تحالفات او حدوث انشطارات بين القوى السياسية تجاه القضايا الاساسية الراسمة لشكل الدولة، فيما تطورات الملف النووي الايراني تترواح ما بين إمكانية حلها دبلوماسياً واستنئاف الحوار مع الترويكا الاوروبية، وامكانية اللجوء الى وسائل اخرى. وهو ما تلوح به أميركا في اطار فوضتها الخلاقة التي تبنتها تجاه منطقة الشرق الأوسط.

ولعل المالكي وحكومته باتا يدركان جيداً ان التحديات المصيرية التي أخذ على عاتقه التصدي لها ومواجهتها، لا يمكن تجاوزها من دون ان تكون هناك دولة قوية تستطيع التغلغل قانونياً داخل ثنايا المجتمع، الذي يعاني من انتهاك بعض افراده، لا سيما اولئك المنتمين الى الميليشيات لسلطة القانون وسيادته، وربما البعض منهم شرع لنفسه قانونا يحكم به فيفرض سيطرته على هذه المحافظة ومواردها خشية ان تقع تحت نفوذ غريمه. والى ذلك فالدولة القوية التي وعد المالكي بترسيخ دعائمها في برنامج حكومته ينبغي أن تستند الى الانجاز والمشاركة المجتمعية، ووسائل اعلام لا تجامل ولا تتعاطف مع الجماعات المسلحة بعبارات غزل سئمها الشارع العراقي، إلى جانب شفافية في محاسبة المقصرين أياً كانت مراكزهم وانتماءاتهم، وادارة كفؤة تستطيع معالجة الأمور بعقلانية صارمة، ومساواة بين المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم، ودولة قوية يحترم ابناؤها جميعا القانون ويحتكمون اليه فقط، لا الدولة التي يتردد برلمانها من مناقشة سن وتفعيل تشريعات أمنية صارمة لمكافحة الإرهاب، من اجل ألا تقرأ هكذا قوانين قراءة خاطئة من بعض اعضائه على انها تستهدفهم بشكل مباشر، او تستهدف مناطقهم الحاضنة للجماعات المسلحة.

من هنا فنجاح مبادرة المصالحة الوطنية اصبح اليوم قرين وجود دولة مؤسسات وقانون قوية، تشق طريقها الى قلوب الناس بفتح قنوات الحوار والتصالح فيما بينهم، وتخرق الحجب التي حاكتها جماعات الظلام التكفيرية لتحجب النور عنهم.