حديقة المناخات في مونتريال

TT

ما هي الحقيقة؟ لدي قناعة بأن الحقيقة هي أكثر شيء نسبي في الحياة. لأن «الحقيقة» الأولى هي، في الواقع، ما نريد. وعندما لا نستطيع فرضها، أو قبول حقيقة أخرى، ندعي الموضوعية. لكن ليس هناك في الحقيقة شيء اسمه الموضوعية. هناك شيء يقبل بأكثر من حقيقة واحدة، بينها، الحقيقة التي نريدها. أو يفسح المجال لها كما يفسح لسواها. وهو أقصى ما نقبل به من تنازل عن فرض الحقيقة الواحدة التي نريدها. إن الإنسان مجموعة فصول ومراحل وثقافات وقناعات نسميها حقائق. ونرفض أن نناقشها أو أن نفكر فيها. ويقتضي القانون مثلا أن نقبل حكما يصدر على صديق أو قريب بسرقة أو جريمة قتل. ورغم كل الشواهد والدلائل لا نستطيع في قرارة نفوسنا أن نقبل الحكم. فالحقيقة التي نريدها تفرض فورا أن يكون المدعي العام هو الظالم، وهيئة المحلفين مخدوعة، وأنه إذا كان من خطأ وقع، فلا بد أن هناك شراكة ما، ومسؤولية فريق آخر، وأن صاحبنا يستحيل أن يكون سارقا أو قاتلا «كاملا» مثل أي قاتل أو سارق آخر.

لذلك يسعى السياسيون منذ التاريخ الى «صنع» الحقائق التي تناسبهم. ويعتبرون كل تغيير «حقيقة». وغالبا ما يضفون على هذا النوع من «الحقائق» صفة التبجيل إما لنزعه من دائرة النقاش عند الخصم وإما لتبرير الفتك بالعدو. لذلك جعل الإسرائيليون المسألة الفلسطينية عودة الى حق مقدس وإلهي. ولذلك بدأ هتلر غزو أوروبا وروسيا متذرعا بالظلم اللاحق بألمان تشيكوسلوفاكيا في إقليم «السوديت». وكانت معظم حروب الأوروبيين حروبا «مقدسة» في الأرض وفي «السماء». وخاض أعنفها البابوات. ولا تزال لمحات منها قائمة في ايرلندا الشمالية، حيث البغض البارد أكثر فظاعة بكثير من الحقد الحار.

في النهاية الحقيقة الكبرى هي الخدعة. كانت الناس تعتقد أن سمك الكافيار لا يعيش إلا في إيران وروسيا. لكن الأميركيين أقاموا للسمك مزارع مشابهة في كاليفورنيا. واليوم هذه المزارع هي أكبر مصدر للكافيار. وأقامت مدينة مونتريال حديقة فيها كل مناخات الأرض في يوم واحد وساعة واحدة: حر أفريقيا وصقيع القطب واعتدال المتوسط. وفي كل جناح تعيش الحيوانات وتنمو وكأنها لم تغادر منشأها. لقد ضحك منها أصحاب المشروع، بقليل من الكهرباء الزائدة وقليل من الأشجار الزائفة وجعلوها تصدق أنها في بوادي الصين، أو في قوافل الربع الخالي. لكل جناح «حقيقته» وللمتفرج «موضوعيته». وهي نسبية مثل الحقيقة أو أقل. وعندما تخرج من حديقة المناخات في مونتريال الى المدينة وتدخل زحمة الطرقات السريعة والجسور المعلقة، تجد أنك قد اكتشفت «حقيقة» جديدة: من الممكن تماما تزوير كل شيء، بحيث لا يعود معروفا إن كان القرد هو الذي يضحك من الإنسان، أم العكس.