وداعا يا أنجب الأدباء

TT

كثيرا ما تكون العلاقة بين الأدباء اشبه بالعلاقة بين الازواج، مسألة قسمة ونصيب. كذا كان أمري مع نجيب محفوظ. فرغم كل حبي له، لم يكن حظي معه موفقا. عندما كنت مشغولا قبل بضع سنوات بكتابي «الساقطة المتمردة» قصدته في مجلسه على شاطئ النيل لمحاورته بشأن الساقطات اللواتي ازدحمت بهن رواياته. وهو الموضوع الذي كرست له ذلك الكتاب. ما ان جلست قدامه حتى وجدت ان بطارية سمّاعته قد نفدت فلم يعد بإمكانه سماع أسئلتي او كلامي. فكان موعدا عقيما ويتيما. نشرت الكتاب بدون مساهمة منه. ماكو نصيب.

حاولت الاستفادة من زيارة اخرى للقاهرة بعد سنوات، فقصدته في مجلسه الاسبوعي في فندق شبرد. ذكر له صديقي الصحافي احمد سعيد شيئا عن مجموعتي القصصية «ما قيل وما يقول» التي نشرت عندئذ. قدم له نسخة منها. جاملني بإلقاء نظرة عليها فقد كان قد فقد نظره كليا تقريبا. طلب مني بدلا من ذلك ان اقرأ له قصة منها. شاء الحظ والنصيب في هذه المرة ان اكون مبتلى بالزكام. لم اشأ ان اجلس قريبا منه وانقل له جراثيمي. وبعين الوقت لم استطع ان اقرأ بصوت عال وواضح يمكِّنه من سماعي بأذنه الصماء. قاطعني قائلا «مفيش فايدة. مش سامع». قلت لنفسي «وكمان؟ مفيش نصيب مرة تاني!».

أخذ احمد سعيد الكتاب من يدي وقرأ له القصة بصوت أقرب للصراخ منه للقراءة الأدبية. كان قد تجاوز التسعين من عمره. أدهشني باحتفاظه بكامل ملكاته الذهنية حتى في هذه السن، فقد رأيته يضحك عند كل المواقف والاشارات الساخرة في القصة.

تبسطه معي وصبره عليَّ وتواضعه أمامي، كل ذلك، عكس هذه الصفة النجيبة في شخصه. الأدباء لا يحبون بعضهم بعضا. فما من شيء يفوق في غيرته غيرة النساء اكثر من غيرة الادباء من انجازات زملائهم. بالطبع، لا اقصد من ذلك مطلقا انني كنت اتوقع من نجيب محفوظ أن يغار مما كتبت. ولكنني لم ألمس فيه غير التواضع والبساطة وروح الألفة والمودة الصادقة، وكلها صفات نادرة بين الادباء والفنانين. انعكست هذه الروح في اعماله. كلها حب للشرائح السفلى من الشعب، ضحايا المجتمع. عبر عن شجونها بلغتها البسيطة المباشرة وفي إطار واقع الحياة وواقعية الاسلوب. وهو بالضبط ما جمعني به. طالما اشرت في كتابتي الى ما ذكره فرويد في ان الانسان كثيرا ما يعيش الاسم الذي اعطاه والده له. ونجيب محفوظ تجسيم لهذا الرأي. اسم على مسمى. فوداعا يا انجب الادباء.