تحييد لبنان: الهزيمة الأكبر لـ «حزب الله» وإيران

TT

القراءات العربية للقرار الدولي الخطير (1701) أشبه بقراءة «بخت» لبنان في الفنجان! قراءات كلها تطمينات متفائلة لمريض في غرفة الانعاش. لم أقرأ الى الآن دراسة عربية وافية لنص القرار، وما بين سطور القرار، وما بعد القرار، وما وراء القرار... إذا جاز لي استخدام فصاحة «زعيم الأمة» حسن نصر الله، في تهديده حيفا، وما بعد حيفا وما وراء حيفا.

لا أدعي أني أقدم في هذه الرقعة الضيفة الدراسة المطلوبة، انما أقدم تفسيرا لمفاصل في القرار، لعلها تفيد في أية دراسة سياسية له، ولكيفية تطبيقه على الأرض.

أقول سلفا إن نشر القوات الدولية في جنوب لبنان ينطوي على هزيمة استراتيجية كبرى لإيران ولـ «حزب الله» ولمبدأ «الاشتباك المستمر» مع العدو. نجح الإيرانيون ووكلاؤهم اللبنانيون خلال أسابيع قليلة في ما عجزت المرجعية السياسية المارونية عن تحقيقه خلال ستين سنة بعد الاستقلال. وهو تحييد لبنان.

الإنجاز الايراني يصيب العرب أيضا، وأولهم سورية حليفة إيران، بكارثة إخراج لبنان من دائرة الصراع مع اسرائيل والصهيونية. نعم، لبنان لم يكن «الشقيق المقاتل» في الحروب النظامية، لكنه كان الشريك المساهم في حمل عبء الصراع السياسي وهمومه العربية. كل الحروب والهزائم انعكست على أرضه صراعاتٍ ومواجهاتٍ، بل حروباً أهلية.

كانت حرية لبنان النسبية وديمقراطيته الطائفية العرجاء تسمحان للعرب فاقدي الحرية والديمقراطية، بأن يتطلعوا اليه كمنارة ثقافية وسياسية معبرة عن عروبتهم الجريحة، ومرآة لمشاعرهم وآمالهم وآلامهم، في صراعهم الطويل مع الصهيونية واسرائيل.

في دفع الكارثة التي أنزلتها ايران بالعرب، نتيجة لتحييد لبنان من خلال القرار الدولي بنشر قوات دولية في جنوبه، راح فؤاد السنيورة يطمئن العرب بأن لبنان سيكون آخر دولة توقع صلحا مع اسرائيل. السنيورة ليس شفيق الوزان الذي حملت حكومته عبء مشروع صلح الرئيس أمين الجميل مع اسرائيل (اتفاق 17 أيار). كعربي كلي أمل في أن يكون وعد السنيورة على قدر ماضيه الوطني المشرف ووعيه القومي المبكر. كلي أمل في أن تحمل الحكومات التي ستأتي بعد حكومته هذا القدر من الوعي بالمسؤولية.

لكن ما يثير الخوف والشبهة أن القرار الدولي يلحق دائما الحديث عن وقف العمليات العدائية بالحديث عن «حل طويل الأمد» للصراع بين لبنان وإسرائيل! ما هو هذا الحل إذا لم يكن صلحا منفردا مع إسرائيل؟ هذا الحل هو «تحييد لبنان» الذي لا يتحدث عنه القرار، إنما طبيعة تشكيل القوات الدولية، والمهمة التي أسندت إليها وطريقة نشرها... كل ذلك يؤكد عمليا ونظريا هذا «التحييد» الذي جلبه تحريك إيران لجبهة «حزب الله»، خدمة لمصالحها في إشغال الغرب عن مشروعها النووي، من دون وعي للنتائج، ولا مبالاة واضحة ومستخفة بما يلحق العرب من ضرر وأذى.

لبيان مدى مصيبة العرب بالعملية الإيرانية، أقول إن القوات الدولية لن ترابط على الخط الأزرق فحسب. القرار ينص على نشرها بين الخط ونهر الليطاني الذي يبعد 35 كيلومترا عن الحدود. القوة الدولية هنا «قوة احتلال» لمساحة تقرب من خمس لبنان. بذريعة منع تهريب السلاح إلى «حزب الله»، تطلَّع القرار أيضا الى حزم لبنان بالقوات الدولية، بمد انتشارها إلى الحدود مع سورية التي تُزَنِّر لبنان من ثلاث جهات. كأن إيران تخدم غرض إسرائيل بفصل لبنان عن الوصل والاتصال مع العرب، تجارة وثقافة وسياسة!

أوروبا وأمريكا اللتان صاغتا القرار خجلتا من لبنان، تركتا لحكومته حرية طلب نشر القوات الدولية على الحدود السورية متى شاءت. لكن القرار كان مصرا بإلحاح على عزل المنطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني وإخلائها «من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة، بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة».

واضح ان إيران كانت في إلحاحها على وقف اطلاق النار تقصد إنقاذ «حزب الله». وقد وافقت على القرار مع تحفظ شكلي، كذلك فعل «حزب الله»، لكن لم يسحب أفراده وقواته وسلاحه من المنطقة العازلة. وهو في ذلك واقع في تناقض محرج: إذا سحب قواته، فقد الأمل في المزايدة على العرب بالمواجهة والاشتباك المستمر مع العدو، بل هو أيضا يساهم في تحييد لبنان من خلال قبوله بالقوات الدولية. إذا احتفظ بقواته في المنطقة العازلة، فهو ينتهك القرار الدولي، ويمنح إسرائيل الحجة والفرصة لانتهاكه أيضا.

أوروبا وأمريكا ايضا في موقف خطير وحرج. كانت الفرصة كبيرة أمامهما لتحييد لبنان بالقوة الدولية. لكنهما تريدان ضمانات من «حزب الله» بعدم خرق «قرار التحييد». يبدو أنهما حصلا عليها من الحزب، وبموافقة إيران، من خلال الأمين العام الدولي كوفي أنان، أو ربما بوساطة «حميدة» من خليل الحزب نبيه بري. والغرض أن لا تتعرض القوة الأوروبية للإذلال والمهانة، كما يحدث لقوات الـ «يونيفيل» المرابطة حاليا في الجنوب.

أدلة أخرى على موافقة إيران و«حزب الله» على القرار الدولي الذي يحيد لبنان: المهاودة الواضحة في تصريحات الرئيس الإيراني نجاد. دعا نجاد بوش إلى الحوار. صفح عن إسرائيل. قال انه لا يهددها. صدر أخيرا كتاب في أميركا للباحث راي تقيه ـ ربما كان إيرانيا متأمركا ـ يدعو فيه الى «شراكة» إيرانية/أميركية بدلا من المواجهة، لأن «مصلحتهما واحدة» في إخضاع سنة العراق لحكم شيعته الذي تباركه إيران.

أيضا «نَفَّسَ» نصر الله زخم «زعامته» العربية. أحرج مجاهدي صواريخ الكلام في الشارع العربي. اعترف بأنه ما كان ليخطف عسكر إسرائيل لو عرف بأنها ستخرب بيت الشيعة. حتى الرئيس بشار في «فورة» الأربعينات من العمر انتقد الزعماء العرب، وعاد ليقول لكوفي إنه سيكافح تهريب السلاح. ومستعد لإقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان.. ومستعد للتفاوض مع إسرائيل. لكن عملية «أسلمة» سورية مستمرة على أيدي «مشايخ» النظام. دمشق تتداول نكتة تزعم أن الشيخ البوطي يطالب بأن تتولى «المحاكم الشرعية» تنظيم المسيرات المؤيدة لـ«حزب الله»، على الطريقة الصومالية. وفرضُ الشيخ عدم إحراج «علمانية» البعث الحاكم بتأييد حزب أصولي.

إسرائيل أيضا متفائلة بغلطة إيران في لبنان. «هاآرتس» تقول إن اعترافات نصر الله أنقذت عصبة الثلاثة (أولمرت. بيريتز. حالوتس). ها هو العجوز بيريس يتحدث عن «سلام كامل مع لبنان» يأتي في اطار «تغييرات استراتيجية كبرى» في المنطقة.

نبيه بري الوحيد الذي لا يقف على الحياد. لا يريد أن يضع لسانه في فمه. يدافع عن «عروبة» شيعة إيران الذين يحكمون العراق، ويوبخ العرب الذين لم ينقذوا حزب إيران في لبنان! بري يملك لسانا طويلا مدعوما بحاسة شم قوية. ربما يطمع في دور حليفه اللدود نصر الله. هل يتوقع استقالته أو اقالته؟! لعل بري يشعر بأن إيران قد تضحي بنصر الله لتغطية مسؤوليتها عن الحرب في جنوب لبنان.

أوروبا «الممول الصامت» التعبير لـ«إيكونوميست». أميركا سمحت لأوروبا بتمويل وعسكرة قرار تحييد لبنان. إسرائيل سمحت أيضا لأوروبا بحراستها من صواريخ لبنان، ولا تسمح لها «بأوروبة» الحل في فلسطين!.