.. وحان سبتمبر الخامس.. فمن يريد أن يرى؟

TT

لم يشأ «مخ» القاعدة، أيمن الظواهري، أن يمر سبتمبر الخامس، بعد هجمات القاعدة على نيويورك وواشنطن، بدون ان يضفي لمسته الخاصة، ويرسم آخر خطوط لوحة القاعدة، الخط الاحمر، الذي يفصل بين ليل الوهم ونهار الحقيقة.

في مستهل هذا الشهر، خرج علينا الظواهري بشريط مصور، حسن الإنتاج والتقنية، من «شغل» مؤسسة سحاب، التي تمثل وزارة اعلام القاعدة، وهو يوجه رسائله الى الغرب، الغرب كله، وبطبيعة الحال قائدة هذا الغرب: أمريكا.

إلا ان الظواهري، ورغم ضخامة الرسالة، وغموض الجهة الموجهة لها هذه الرسالة: الغرب، كان لا يخلو من شيء من التواضع، فقدم لنا «الوجه الجديد» او قل اسقط القناع عن الوجه الجديد «ابو عزام الامريكي» الشاب الكاليفورني، الذي دخل حديثا في الاسلام، وتلقب بأبي صهيب، وكان قد خرج في شريط مصور مغطيا وجهه بلثام، في (نوفمبر 2004) وهو يهدد امريكا بنهر من الدماء، وحينها كثرت التكهنات حول شخصية هذا الشاب الامريكي القاعدي، حتى كشفت المعلومات انه ليس إلا شخصا امريكيا اسمه آدم قادان.

الظواهري قدم قادان، او عزام، الى الجمهور مكشوف الوجه، وبعمامة طبعا، ولواحقها من سترة افغانية وما إلى ذلك. والشاب يكرر تهديداته، لكن الذي جعلني اتوقف عند هذا الشريط ـ الديوتو، الاخير، ليس ندرة حديث «الدكتور» ايمن، فالرجل غزير الانتاج، ولم يمض على آخر شريط له قبل الشريط ـ الديوتو، سوى حوالي الشهر، حينما خرج بتسجيل يدلي فيه بدلوه حول حرب لبنان، (الشريط بث في 27 يوليو الماضي). الذي جعلني اتوقف عند هذا التسجيل المشترك مع عزام الامريكي الاخير هو أن الظواهري ازال فيه الاقنعة، قناع آدم قادان لأول مرة، وهذه حالة رمزية تشير ايضا الى ازالة القناع الاكبر والاهم، قناع الجوهر الحقيقي لخطاب القاعدة، ومن خلفها خطابات الاصولية السياسية.

فما هو هذا القناع الاكبر الذي أزاله الظواهري في شريط الذكرى الخامسة لهجمات 11 سبتمبر؟

دوما كان البعض في الاعلام العربي، أو حتى بعض المفكرين والباحثين، يجهدون انفسهم، ويجهدوننا معهم، في إلباس القاعدة «برنيطة» ليست لها، من خلال القول ان التنظيم ليس الا ردة فعل على الاحتلال الامريكي للعراق، (القاعدة أعلنت في 1998 كما نعرف!)، والبعض الآخر من جماعات المجتمع المدني وحركات الاحتجاج الديموقراطي التي تشير اليها جماعة مثل حركة «كفاية» في مصر او «مجموعة الاصلاحيين» في السعودية، تؤكد دوما وبكل حماسة ان سبب وجود نموذج القاعدة هو فقدان الديموقراطية وتفشي الاستبداد السياسي، وعدم وجود مناخ حرية التعبير والحقوق..

هنا نقول : قضية الاصلاح السياسي، والإصلاح بشكل عام، قضية حقيقية وملحة، وهي تحد كبير يواجه الدول العربية، هذا لا جدال فيه، وأنا اعتقد بصحة ذلك من دون ريب. غير ان موضوعنا هنا مختلف، لأننا لا نريد تقزيم قضية التطرف الديني، والذي هو جذر الإرهاب، وجرها من قرنيها الى «حوش» قضية الاصلاح السياسي، حتى تضيف الى رصيد قضية الاصلاح، فهي قضية «برأسها»!.

الفريقان: الرابطون لوجود القاعدة، او مناخ القاعدة للدقة، بالسياسة الامريكية وبالقضية الفلسطينية، او الرابطون لوجود القاعدة ومناخها بعدم وجود اصلاح سياسي في الداخل، الفريقان، كانا لا يقرءان القاعدة وشقيقاتها، المستيقظة منها والنائمة، لا يقرءان القاعدة من داخلها، ولا يكلفان نفسيهما التعب قليلا لمعرفة لماذا ترفع القاعدة بندقيتها، وهل يحرق شبان في عمر الزهور انفسهم بالأحزمة الناسفة ويتركون كل شيء، وحتى بعض وظائفهم المرموقة، مثل المهندس الذي قاد عملية مدينة ينبع البترولية غرب السعودية (في مايو 2004)، هل يفعلون كل هذا، فقط من اجل تحقيق الديموقراطية، او بسبب القضية الفلسطينية، التي هي ليست وليدة اليوم ؟!

لنحاول ان نعرف خطاب واماني واشواق مقاتلي القاعدة وداعميها وشقيقاتها، والتي لا تحتاج الى كبير عناء وتعب من اجل رؤيتها.

مثلا، هذا هو الظواهري يقول، وبالعربي، وبكل وضوح، في شريطه الاخير: انه يريد من الغرب ان يقر بالحقيقة ويدخل الاسلام، وانتهينا !

أي أنه يريد استعادة النموذج التاريخي القديم بحذافيره، وتنطلق غزوات الاسلام او «جهاد الطلب» من جديد. وحتى يقنع هؤلاء الغرب اكثر، يقدم لهم رجلا من بني قومهم، ابو عزام الامريكي (آدام قادان.. ما غيره). ويقول عنه: إن «أخانا عزام الأميركي، أسال الله أن يكون ممن تحقق فيهم قول الحق، يحدثك حديث المشفق على قومه من المصير الذي ينتظرهم، ويريد أن يخرج قومه من الظلمات إلى النور». ثم يظهر عزام الاميركي متحدثا بالإنجليزية، مستشهدا بالعربية بآيات قرآنية ويقول: «للأميركيين ولبقية العالم المسيحي نقول: إما أن تتوبوا عن أساليبكم الضالة وتدخلوا في نور اليقين، أو أن تحتفظوا بسمومكم لأنفسكم وتعانوا سوء العاقبة في هذه الدنيا وفي الآخرة».

هكذا اذن: حرب دينية صريحة، غايتها في شقها الخارجي، إخضاع الغرب الضال، ومعه بقية العالم لـ:« نور اليقين»، وغايتها في شقها الداخلي، تقويض الانظمة في العالم الاسلامي العربي، لا أعني انظمة الحكم وحسب، بل شيئا أعمق وألصق بخطاب الاصولية الثورية، وهو تقويض الانظمة الاجتماعية والاقتصادية، ومجمل الحياة الحديثة (المتعثرة اصلا) من اجل اقامة دولة الخلافة الاسلامية المفقودة، وفق نموذج الظواهري ورفاقه. وهذا الامر ليس من عندياتنا بل قال به الظواهري صراحة في رسالته الشهيرة التي وجهها لزميله الزرقاوي في العراق. تلك الرسالة التي كشف عنها في اول اكتوبر 2005، ونشرت السلطات الأميركية نصها الكامل، من دون أن تحمل عنوانا معينا، مؤرخة بـ«يونيو 2005».

تحدث فيها الظواهري عن أن العراق مجرد خطوة في الطريق، وأنه يجب ان يكون قاعدة للانطلاق وليس هدفا نهائيا، أو كما قال الظواهري إن هناك أهدافا «مرحلية» وأهدافا نهائية، أما المرحلية فهي إخراج القوات الأميركية، وأما النهائية فهي إقامة الخلافة الإسلامية على امتداد بلاد الشام والعراق ومصر، باعتبار أن هذه هي «عقيدة» الظواهري السياسية التي لا يزال مؤمنا بها.

للأسف، في مثل هذه الاجواء والافكار، اصبح العالم محكوما بالقلق، وصارت قصة حوار الحضارات التي يطرحها شخص ناعم الملمس مثل خاتمي مثيرة للشفقة، والرجل هذه الايام يحاضر عن ذلك في امريكا، التي جاءها بترخيص مباشر من كوندي رايس، بعد ممانعة واحتجاج من محافظين ويهود، بحجة ان خاتمي من رموز النظام الايراني. لكن خاتمي الناعم لم ينس ان يؤكد ان سبب وجود ارهابيين في العالم هو سياسة امريكا، في حين لم ينس المتحدث باسم وزارة الخارجية شون ماكورماك من القول ـ مذكراً خاتمي ـ بأنه «سيكون بامكانه التعبير عن آرائه بحرية وهذا ما يمكن ان يسبب الانتقادات للولايات المتحدة «...» انه شيء لا يحق للناس في بلاده القيام به».

وفي نفس الوقت لم ينس الظواهري من التأكيد على من نسي او يريد ان يتناسى، او لا يحب هذا النوع من المعرفة «السافرة»، ها نحن نريد هدم كل ما هو موجود، وقتال الكفار، ليس فقط من أجل اخراجهم من بلاد المسلمين، وهذا ما قد يروق لبعض الساخطين، بل إرغام الغرب على الدخول في نور اليقين، وإخراجهم من الظلمات الى النور، ويا غرب ويا أمريكا: اسلم تسلم. من يريد أن يلقي كلاما آخر على لسان الاصولية الاسلامية، فتلك مشكلته، لكن هذا هو لسانها، وذلك هو حلمها الحقيقي.

يبقى ان نذكر اننا هنا انما نريد ان نؤشر الى «نواة» خطاب الاصولية العسكرية الصلب، وليس الحديث عن قضاياها السياسية والاقتصادية، الفرعية. نتحدث عن هذه النواة المتمثلة بإعادة صياغة العالم كله من منظور اصولي، يُرئِّس فقه «الخراج» والغنائم

و«الفريضة الغائبة» أو الجهاد، اي القتال الابتدائي، او «جهاد الطلب»، هذا المفهوم الذي دافع عنه بضراوة علماء دين كبار حاليون بحجة الحفاظ على الهوية الاسلامية! في نفس اللحظة التي يدعون فيها انهم يحاربون القاعدة فقهيا!.

نعرف ان هناك حالة من السخط العفوي و(اللامؤدلج) على تعثر الاصلاح السياسي العربي او سياسات اميركا، وهذا موضوع مختلف، وقد تسهل مثل هذه المشاعر من عمل القاعدة وأشباهها، ولكنها ليست سبب وعلة وجود القاعدة .. الامر جد مختلف.

يبقى القول إنه في مثل هذه الاجواء المشبعة ببخار الاصولية والاقصائية، يصبح امرا مألوفا ان تتقطع جسور الوصل بين البشر على هذا الكوكب، وتحل محلها وديان الكراهية ويتحدث امراء القطيعة والحرب، فنسمع عن جماعة من العنصريين البيض في بريطانيا تهدد، قبل ايام، وبأسلوب القاعدة، بقتل مسلمي بريطانيا ما لم يتركوا الجزيرة، «الجميلة» على حد وصفهم، مقلدين أسلوب القاعدة، في نسختها الزرقاوية، في لبس الاقنعة والتهديد بالسلاح الابيض..

الامر أخطر من استغلال حالة القاعدة والركوب فوقها من أجل منازلة نظام عربي هنا، او الفرح باغاظة أميركا هناك، الا اذا كان نموذج دولة الظواهري هو النموذج المدفون في اعماق من يدعون النخبوية والثقافة من العرب، وحينها، فلا داعي لكل هذا التحذير الطويل العريض في هذا المقال.. حينها يجب ان نتوقف هنا!

[email protected]