نجيب الأديب العجيب

TT

المدهش في حياة نجيب محفوظ أنه ليس فيها على الإطلاق ما يدعو إلى الدهشة. وإن كان قد ترك لنا أدباً نفاخر به أمام الأمم، فقد جعل من حياته البسيطة والمتقشفة والكادحة، درساً يوازي في أهميته مجموع رواياته وربما يفوقها عظمة.

وبوضوح أكبر فإن نموذج محفوظ الحياتي يناقض تماماً نموذج المثقف العربي الراهن، المتعطش للمكاسب، الراغب في المناصب والمتهالك على السفريات والدعوات والاحتفاليات، المستميت على الظهور.

فقد سعى محفوظ برجليه ويديه وعقله، لأن تستمر وتيرة أيامه عادية، لا تخرج على مألوفها أو مألوف أي مواطن متوسط، وتجر عليه الانقلابات والعواصف أو حتى الاهتزازات. بقي في الوظيفة قانعاً، واعتبر «الستر» غاية، ورضي من الهوايات بالتفرج على التلفزيون وارتياد المقاهي لمقابلة الحرافيش. وليست هذه في الغالب، طموحات الكتاب والأدباء العرب، الذين يرون سوريالية حياتهم وجنونها وجموحها، الرافد الأساس لحروفهم.

محفوظ جاء وذهب ليقول، إن كل مواطن صغير، على قد الحال، بمقدوره أن يكون خارقاً وفذاً، وحامل نوبل أيضا، لو امتلك الإرادة والقناعة، والرغبة الجامحة في الكد حتى آخر نقطة عرق. ليس ذلك فحسب، بل لقد اجترح محفوظ أعجوبة بمؤلفاته الأخيرة. فقد اكتشفنا، أن هذا التسعيني، لا يستمر في الكتابة فقط ـ وقد ظنناه قد جفّ ـ بل زادت حروفه ألقاً وجمله كثافة وقوة، واكتسب جرأة تعبيرية كان يتحاشاها من قبل.

ونحن لا نعرف كاتباً، استطاع أن يؤلف في هذا العمر، بروعة وبلاغة ما كتبه محفوظ في «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة». ولعله فعل ذلك، ليضاعف إحساسنا بأن العمل والجد، هو الطريق الأسلم للوقاية من الخرف. وقد كان محفوظ يدرك أن الكتابة هي صنو الحياة، وقد قالها بدون مواربة: «عندما لا يكون عندي ما أكتبه أشعر كأني ميت. لذلك عندما قالوا إن همنغواي قد انتحر لأنه لم يجد ما يكتبه، التمست له العذر في ذلك، وهو كما تعلم لديه المال والقصور والشهرة. ولكنه لم يطق الحياة من دون ابداع، لأن الحياة عنده توازي الإبداع».

محفوظ ليس همنغواي الذي شبهته الصحافة الأميركية به، وبالنسبة لنا، لعله أهم منه بكثير. وكل يوم سيشعر العرب أكثر كم كان محفوظ كبيراً، وثميناً، في زمن كان يصعب فيه على أمثاله مقاومة أعاصير الغواية التي تجتاح حياتهم.

لعل اهتمام محفوظ المبكر بالفلسفة ودراسته لها، علمه أن يكون رياضياً من الدرجة الأولى. وأنت حين تقرأ له، يمكن أن تتنبه بسهولة إلى قدرة هائلة على السير في تسلسل منطقي مقنع ومحكم. هذا لم يطبقه فقط على مسار أبطاله، وإنما على مساره الخاص أيضا. فمحفوظ هو الشخصية الأهم التي بناها نجيب محفوظ واعتنى بها حتى بلغت الخامسة والتسعين، وهي في كامل نضجها، ساعية إلى اكتمالها.

لم يكن محفوظ في حياته ثائراً كبيراً، أو شخصية صدامية تريد أن تغير العالم بيومين، أو حتى كاتباً نافذاً يريد أن يستفيد من شهرته ليحقق اختراقات تحسب له، كالانتصار للحريات العامة أو الاعتراض على السياسات التي لا تعجبه. بل على العكس، بقي مهادناً مسالماً، يتقي شرور الآخرين وغضبتهم، وهو مما سيحسب عليه، ربما حين تخفت رهبة الرحيل، لكن ستبقى لمحفوظ من الفضائل الكبيرة ما يقيه شر محاسبة عسيرة. فقد اختار بدل أن يعارك على الأرض أن يحارب على الورق وقد فعل، وأبطاله الذين صاروا أحياء من لحم ودم، خير دليل على ذلك.

رغم المقابلات الكثيرة التي أعطاها محفوظ للصحافيين، إلا انه بقي مجاملاً، محاذراً، نادراً ما يخرج عن وقاره. وفي واحدة من ألطف وأظرف هذه المقابلات، يتحدث عن غرامه بالرقص الشرقي وإعجابه برشاقة جسد تحية كاريوكا وأدائها الممتاز، ويشيد أيضا بـ«الميني جوب» قائلاً: «جميل.. وهو يكشف عن المرأة ويمنع غش الرجال.. كما يدفع الأنثي الي العناية بنفسها»!

نادراً ما كان محفوظ يستسلم لسجيته في أحاديثه، وخلال تحقيق تلفزيوني حديث أجرته إحدى المحطات الفرنسية عن محفوظ، رأيناه وهو لا يعرف أن الكاميرا تسلط عدستها على وجهه، يهمس إلى شخص يجلس بجانبه بالقول: «لا أريد أن أتحدث في السياسة». هكذا بقي محفوظ حتى سنواته الأخيرة، مواطناً عربياً يخشى الوقوع في تهلكة السياسة، ويسير وفق النهج المعروف «الحيط الحيط، ويا رب نوصل عالبيت». وقد وصل محفوظ إلى البيت ومكانة روائية عالمية تخطى من خلالها كل حدود وسدود.

ويجب ان تعترف اليوم أن محفوظ كان استراتيجياً، رسم لنفسه خطة سهلة وذكية، استطاع من خلالها ان يوظف كل ما حوله لخدمة غاية، لعله حددها وهو في الخامسة من العمر، حين استعار قصة «بن جونسون» من زميله في الصف، وأعجب بها، وأحب من يومها لو يكتب مثلها. وكبر الصبي، وقرأ كثيراً وكتب حكايات جميلة، ولم يكن يحتاج ذلك لا لثروات هائلة، ولا تخصصات في أحسن الجامعات، ولا حتى معونة حكومية تعفيه من دوام الوظيفة.

حقا، إن حياة نجيب محفوظ وحدها تستحق نوبل بجدارة.

[email protected]