.. وشيعة العراق أيضا عراقيون

TT

ربما عكس كثيرون أجد بعض البريق في تناول الإعلام العربي الشعبوي لأزمة لبنان الأخيرة، فمع بداية الأزمة لوحظ اتجاه في الصحف المصرية والعربية لاعتبار حزب الله فصيلاً لبنانياً خالصاً يدافع عن قضية تمس مواطنين لبنانيين، وحوصرت أية محاولة للانتقاص من وطنية منتسبيه على حس انتمائهم المذهبي ـ الشيعي، كما رفضت أقلام كثيرة فتوى دينية تنفي الإسلام عن أفراده. بالطبع ساعد كون الحزب يحارب عدواً مكروهاً من الغالبية الساحقة ممن يقفون على ترحيب العامة به، غاضين بصرهم عما أثير من نقد لتاريخه وفعاله أو نتائج مواقفه اعترض مثلاً مصلون مصريون على أحد الخطباء حاول الانتقاص من زعيم الحزب لدعاوى مذهبية، وحتى أن الجرائد الأقل رصانة تخلصت من ميراث الكلمات المسيئة المحفوظة من كون الشيعة عملاء لدولة إيران، أو أنهم كفار.. الخ، وهذا الاتجاه ـ رغم وجود عوامل أخرى كان يجب أن تدخل في التحليل، هو بذاته مرحلة متطورة في التفكير، نقطة متقدمة في التناول الإعلامي العربي والمصري بالأخص في فهم الحدث والحكم عليه، وقطعاً يمكن البناء عليها. ويمكن أن تكون هذه الانعطافة منطلقاً لفهم تحركات قوى أخرى كالعراق مثلاً، فيصبح نقدها مرجعه الوحيد هو تمثيلها المصالح الوطنية من عدمه. لقد فقد لبنان في نحو شهر ما يربو على الألف ضحية وشهيد غالبهم مدنيون وشيعة، وانطلقت حملة التبرعات التي لن تعوض عن النفوس شيئاً، وفقد العراق العدد ذاته قبل عام في حادث جسر الأئمة، حيث سقط هذا الكم المهول من الأرواح في دقائق وغالبهم أيضاً مدنيون شيعة كانوا يؤدون طقوسهم الدينية، سقطوا خوفاً لشائعة تؤكد جديتها أجواء العنف اليومي ضد المدنيين العزل، لكن أحدا لم يعلن وقتها عن حملات تضامن أدبية ولا تبرعات عينية.

خريطة الحركات السياسية بالعراق حالياً معقدة بدرجة تجعل الانتماءات القومية والمذهبية والدينية أحد العوامل المساعدة لفهم أداء هذه الأحزاب

والفصائل، لكنها ليست العامل الأول أو الوحيد، يتراجع هذا العامل عندما تقارن مثلاً بين حزبين يتقاسمان نفوذاً بين الشيعة؛ كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والدعوة، لا يمكنك أن تغفل ظروف ومكان نشأة ونشاط كل منهما، يمكنك أيضاً فهم تحولات مواقف المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عبر تحليل شخصية قيادته (قارن بين مواقف وردود فعل السيد محمد باقر الحكيم الذي مرت قبل أيام الذكرى الثالثة لاغتياله ثم خليفته عبد العزيز، موقفه من التعاون مع الإدارة الأمريكية قبيل الحرب وبعدها. لماذا كان يترك التصريحات والمواقف الخلافية لغيره مثل الإعلان عن تملك وثائق امتلاك نظام صدام لأسلحة نووية، أو حضور فعاليات برعاية الإدارة الأمريكية سابقاً كمؤتمر لندن2002 أو بوصاية الإدارة المحتلة لاحقاً كمجلس الحكم)، تصنيف الحزب الشيوعي العراقي عندما انضم لمجلس الحكم كحزب «شيعي» لمجرد أن هذا هو مذهب سكرتيره العام، هو أيضا نموذج لهاجس المذهب لتفسير كل صغيرة وكبيرة بالعراق.

وجود مراجع شيعية متعددة بعضها إيراني المولد، حصل بينها كثير من الشد والجذب، تصريح السيستاني لبريمر «أنا إيراني وأنت أمريكي..دع الأمر للعراقيين»، موقفه من ولاية الفقيه، يمكنها أن تعطينا طريقة أخرى في التفكير والمقارنة مع موقف مرجعيات دينية أخرى من أصل إيراني، لا يكفي الانتماء بالمولد لمذهب أو بقعة خارج الوطن لتفسير كل موقف هنا.

يمكنك أن تلمس طاعة عمياء من قبل زعماء فصائل عراقية لأولياء نعمتهم بطهران، لكن سيكون من التجني أن تسحب هذا التفسير على سلوك كامل المنتسبين لنفس الفصيل، المستويات الوسطى والقاعدية في جيش المهدي انضوت تحت لوائه لأنه يمثل لديها خلاصا من نوع ما، يداعب أحلام الفقراء في مدينة الثورة المهمشة، الخطب الحماسية والأكفان البيضاء كانت تجذب يومياً العديد من المراهقين والشباب الصغار ممن تسربوا من المدارس طوال التسعينات، حيث كانت العقوبات الاقتصادية والفقر تعصف بكل شيء بالبلاد، بما في ذلك منظومة القيم وبوصلة الطريق، وحتى أسس الترقي أو الاستبعاد داخل هذه الأحزاب ليست رهينة لدرجة التدين أو التزكية بملالي إيران، لا يمكننا أن نصفَّ بخندق واحد عشرات الأحزاب التي ترفع بجوار اسم العراق راية علي والحسين، كما أن شقاق الشيعي الشيعي يرتفع الآن بالعراق على أساس سياسي ومصلحي أكثر منه دينيا، كالهجوم على إدارة علاوي في حقبة الجعفري وحتى المالكي، وكلهم شيعة، الخلافات المتكررة بين جيش المهدي وحزبي الدعوة والمجلس خاصة بمحافظات الجنوب. كيف ستفسر موقف الأكراد الفيليين (الشيعة) ممن عاشوا بإيران لأكثر من 30 عاما منذ بدأت عمليات تهجيرهم الجماعية نهاية السبعينات، بموقف الجنود الشيعة الذين وقعوا في الأسر بالثمانينات إبان الحرب مع إيران، التي تعاملت معهم بمنهج آخر تماما، وكونت منهم طائفة التوابين، هل البقاء في إيران له نفس التأثير على الفئتين؟ كيف أثر طول البقاء بجمهورية الملالي الأكثر تشدداً وقتها مما هي عليه الآن على سلوك هؤلاء وفهمهم للانتماء للوطن، بالمقابل هناك آلاف الكرد (السنة) هربوا صوب إيران الشاه في 1975 بعد هزيمة ثورة البارزاني الأب، ما الفرق بين موقفهم وموقف أخوتهم من الكرد الفيليين.

كيف سيساعدك التفسير المذهبي على فهم العلاقات الجيدة التي ربطت إيران وأحزاب عراقية علمانية أو أخرى تمثل غير الشيعة،لا يمكن رد كل تقارب عراقي مع طهران للانتماء لمشروعها الإسلامي ولا المذهبي؛ فالاتحاد الوطني الكردستاني احتفظ بعلاقات قوية مع طهران منذ نشأته 1975 بدمشق؛ العاصمتان ظلتا على توافق واضح، وعندما تقارب الأسد مع نظام صدام نهاية التسعينات فإن الخاسر الأكبر عراقياً كان الاتحاد الوطني على الجبهتين.

كيف يمكننا فهم كلمة «عجم» عندما ينطقها شيعي عراقي بمرارة بسبب تصرفات بعض مواطني «جمهورية إيران الإسلامية»، ليس بوسع أحد أن ينسب ولاء ملايين الشيعة العراقيين لدولة أخرى لمجرد تشابه المذهب. تحضرني العديد من الأمثلة على أن مواطنين شيعة بالعراق بينهم متدينون كانت إيران بالنسبة لهم مجرد دولة مجاورة فيها بعض المراقد الدينية. وبالنسبة للتجار وأصحاب الفنادق هي مصدر جيد لعملة التومان في موسم الزيارات الدينية وما أكثرها. لا أحد منهم سيكون سعيداً إذا قلت له أنت تدين بالولاء لإيران بحكم مذهبك، ليس لكونه عميق التعصب لاستقلاليته وعراقيته، سيقول لك ببساطة انهم معتدون بأنفسهم يرفضون تفضيل أو تسييد أحد عليهم، الى حد أن الساسة منهم بالكاد يوافقون وفي آخر لحظة على قرارات ذات صلة بتقاسم السيادة والحكم بينهم، الى حد أن رئاسة مجلس الحكم - الاستشاري- إبان حكم بريمر أصبحت تدور بين تسعة، كما اخترعوا لاحقا ما يسمى مجلس الرئاسة الثلاثي.

لقد كانت كردستان العراق لفترة طويلة بمثابة الفناء الخلفي لقوى الشرق الأوسط، بسبب الفراغ الأمني الذي عززته الحرب الأهلية، معطياً فرصة جيدة للقوى أن تبسط مزيدا من النفوذ، لقد دأبت القوات التركية والإيرانية على انتهاك سيادة العراق بقصف مناطق بشماله، كان مثل هذا الخبر كافياً في التسعينات لتصدر الجامعة العربية والأحزاب السياسية العربية البيان تلو الآخر، على الأقل لتعطي إيحاء ضمنياً أن هناك من يساند العراق ضد انتهاكات دول الجوار، لكن يبدو أن الأنباء تنتقل الآن بصورة أبطأ عما كانت عليه من عشر سنوات، فتركيا تواصل حشودها وتحرشاتها، وإيران تقصف جبال قنديل منذ الأسبوع الثاني تقريباً من حرب لبنان بحجج متفاوتة، لكن أحداً لا ينتقدها في هذا المسلك، ترى هل أعطاها حزب الله حصانة ضد النقد؟

جيد أن يتوقف الإعلام العربي عن استخدام شماعة المذهب وفزاعة الولاء لتفسير الأمور، والأمل أن يسحبوا هذا الترفع عن الصغائر عند الحديث عن العراق ليصبح التناول وفق تقاربات منهجية حقيقية ومداخل أكثر واقعية.