«الخطفنة» بعد «اللبننة».. وقبل «العقلنة»

TT

أخذت بعض الكلمات مكانها في قاموس المفردات وإلى درجة أنها غدت اسماً لحالة تعبِّر عن واقع مثل «القبرصة» تدليلاً على انقسام جزيرة قبرص نصفين: قبرص اليونانية وقبرص التركية، ومثل «اللبننة» تدليلاً على الاقتتال الأهلي العبثي الذي وصل إلى حد التصفيات الجسدية وأحياناً جز رقاب البشر عند حواجز ميليشياوية كافرة ومجرمة بحق الإنسان، على أساس الهوية المذهبية. ومع أن إخواننا الجزائريين تفوقوا بكثير على اللبنانيين وذاع صيتهم في مضمار التصفيات بالجملة وبواسطة السيوف والسواطير الى أن قيّض الله لهم عبد العزيز بوتفليقة رئيساً يريد استبدال ذبح البشر بالوئام عن طريف العفو يسود البلد الذي كنا نتباهى بأنه بلد المليون شهيد، فإذا به يتحول الى بلد تستباح فيه أرواح الناس من دون رحمة، إلاَّ أن هذا السلوك غير المحمود لإخواننا الجزائريين لم يكن ابتكاراً وإنما استنساخاً لـ «اللبننة» المبغوضة. كما أن الذي يحدث في العراق قبل أبو مصعب الزرقاوي وبعد اصطياده من أعمال ذبحية ورمي للجثث على نواصي الشوارع أو في المجاري أو بين أشجار النخيل في بساتين بلاد الرافدين أو على ضفاف دجلة والفرات، لا يمكن اعتباره ابتكاراً أوحت به القرائح العراقية، وإنما هو بدوره استنساخ لـ«اللبننة» وحق محفوظ لها على أساس أن الأهمية هي لمن يسبق وليس المن يقلِّد. لا سامح الذين كانوا سبَّاقين ولا الذين قلَّدوا مخالفين الشرائع السماوية وما يأمر به رب العالمين الذي حرَّم قتل النفس.

الآن ومن دون أن نتأكد من أن «اللبننة» ستقتصر على إخواننا العراقيين بعد إخواننا الجزائريين ولن يكون لها مستنسِخون في ديار عربية أخرى وكأنما هي فروع لسلعة من الغذاء أو الملبس أو المستحضرات التجميلية هنالك إقبال عليها، تأخذ «الخطفنة» على ما يبدو طريقها نحو الانتشار. وما نقصده بـ «الخطفنة» هو خطف جنود إسرائيليين لمقايضتهم بأسرى عرب على نحو ما فعله إخواننا «الحماسيون» في غزة الذين خطفوا جندياً إسرائيليا من أجل المقايضة المشار إليها، فإذا بالغرض لا يتحقق وترد إسرائيل على ذلك بخطف وزراء ونواب «حماسيين»، من بينهم رئيس البرلمان الفلسطيني عزيز الدويك، وترميهم في الزنازين، ولا تكتفي بذلك وإنما تمعن تدميراً واغتيالاً بما هو أشد هولاً. كما أن الذي نقصده بالحالة نفسها هو إقدام «حزب الله» في لبنان على خطف جنديين إسرائيليين في عملية ظاهرها التنسيق أو لعله توارُد خواطر مع الحليف «الحماسي» الغزاوي، وكأنما أراد «حزب الله» تكثيف الضغط على الإسرائيلي العنيد فيعيد النظر في مكابرته وينصاع الى مطالب الطرفين «حماس» و«حزب الله» وعلى أساس أنه ما دام الحليفان نجحا في خطف ثلاثة جنود، ففي الاستطاعة معاودة الخطف مثنى وثلاثا وأكثر، وفي الوقت نفسه يخفف الضغط الدولي على كل من الدولتين الملاذ والمساندة المالية والصاروخية: إيران ذات الطموح النووي، وسورية ذات القلق من المحكمة الدولية لكشف حقيقة مَنْ اغتال رفيق الحريري. ولماذا هذا الإجرام في حق رجل دولة أفاد ولم يضر وأنجز عملية إعمار بالغة الأهمية.

انتهى الخطف بكارثة أعادت لبنان عشرين سنة الى الوراء وهو الذي كان يتطلع الى تعويض عشرين سنة من التأخير بفعل الاقتتال طوال ست عشرة سنة وصنع اتفاق الطائف بسعي مشكور من الملك فهد بن عبد العزيز، رحمة الله عليه، وإخوانه نهاية متوازنة لها. وخلال شهر من القصف التدميري جواً وبحراً احترقت الحقول والبساتين الجنوبية وأتى التدمير على مئات المنازل وعشرات الجسور وشمل ذلك عاصمة «حزب الله» المعروفة بـ «الضاحية الجنوبية» من عاصمة كل اللبنانيين: بيروت. وكانت الكارثة ستبدو أعظم بكثير لو أن «حزب الله» لم يقصف بمئات الصواريخ مدناً وبلدات ومواقع إسرائيلية، وبذلك ذاق الإسرائيليون طعم الخوف وعلقم النزوح ولوعة العيش في الملاجئ وتفضيل المئات الهجرة الى بلاد سبق أن أتوا منها.. هذا إلى جانب تحطُّم عشرات دبابات الـ«ميركافا» والآليات والأوناش وقتل وجرح المئات من الجنود في مواجهات أظهر فيها المقاومون من البسالة ما جعل الأنظار والقلوب مشدودة اليهم. لكن في الوقت نفسه يمكن القول انه لولا الصواريخ التي أرسلها «حزب الله» لربما ما كان للتدمير الممنهج أن يحصل ولا للمليون شخص أن ينزحوا ولا لليد اللبنانية الحكومية أن تمتد متوسلة الى من ينجدها بالمال والغذاء والدواء.

ما أن انتهت المنازلة الى واقع مرير نتيجة أن الجانبين لبنان وإسرائيل خرجا نازفين معنوياً وبشرياً، حتى تحوَّل وهج التحدي الذي مارسه المقاومون الى ما يمكن تسميته «الخطفنة» حيث انه بعد أيام من وقف الحوار الصاروخي بين «لبنان حزب الله» و«إسرائيل إيهود أولمرت»، وعلى وقع مطالعة تنقصها الحصافة للرئيس بشَّار الأسد وقول الرئيس الحليف محمود أحمدي نجَّاد إن إيران النووية لن تشكل خطراً على إسرائيل وهو الذي أمضى خمسة أشهر من الشحن لنفوس الإيرانيين ومريديهم في الخارج مثل «حزب الله» يقول إن اسرائيل يجب أن تزول، وكذلك تعلان السيد حسن نصر الله الأمين العام لـ«حزب الله» انه لو كان يتوقع رد إسرائيل على عملية خطف الجنديين كما حدث لما كان أمر بالعملية... انه بعد أيام من هذا الذي نشير إليه أطلق تنظيم يحمل اسم «رجال المقاومة الوطنية في الجولان السوري المحتل» يوم الأربعاء 30 أغسطس (آب) 2006 بياناً جاء فيه «ندعو سلطات الاحتلال الى الإفراج عن أسرى الجولان السوري المحتل (عددهم 22) فوراً من دون قيد أو شرط. وإذا لم تستجب لهذا المطلب الإنساني سنتخذ التدابير اللازمة لإطلاق سراحهم، ولن يكون النموذج اللبناني، نموذج «حزب الله»، ببعيد عنا في التنفيذ والإعداد من أجل إطلاق أسرانا. لقد أَعذر من أنذر وإنّ غداً لناظره قريب...».

نخلص إلى القول: هل أفادت «اللبننة» الذين استنسخوها ونقصد بهم إخواننا الجزائريين ثم العراقيين؟

وهل حققت «الخطفنة» ما رمت اليه «فلسطين الحماسية» ثم «لبنان حزب الله» لكي يستنسخها «الجولانيون» الذين أعلنوا عن نفسهم وحددوا مطالبهم على نحو تحديد «حماس» عندما خطفت الجندي، وتحديد «حزب الله» عندما خطف الجنديين؟

بالعودة الى أيام مضت عاشها لبنان وغزة «الحماسية» نجد الجواب الواضح وبوضوح شمس صيفية... ونجد أن «العقلنة» هي البديل.