نجيب محفوظ ونهاية القرن العشرين

TT

قد يبدو الحديث عن نهاية القرن العشرين متأخرا ست سنوات، ولكن القرون لا تبدأ ولا تنتهي حسب أزمانها وإنما حسب الأحداث والأفكار العظمى التي تشكلها. وعندما قيل إن القرن العشرين بدأ متأخرا مع نشوب الحرب العالمية الأولى وانتهى مبكرا مع نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينيات فإن القائلين بذلك لم يجانبهم الصواب. وبالنسبة لنا فقد جاءت وفاة نجيب محفوظ تعبيرا عن نهاية كل الأفكار والتوجهات الكبرى التي حفلت بها مصر والعالم العربي خلال فترة ممتدة من مطلع القرن حيث ولد عام 1911 وحتى وصل إلى عامنا الحالي 2006. وفي البداية كان رجلنا قد فتح عينيه على تلك السنوات التي استكمل فيها الفكر العربي تفتحه الذي بدأ خلال القرن التاسع عشر مع أفكار الطهطاوي والأفغاني وعبده والكواكبي ولطفي السيد وسعد زغلول وغيرهم كثر. وعلى اختلاف هؤلاء وتنوعهم بين تيارات ليبرالية وقومية وإسلامية فإنهم اتفقوا على أن صيغة الوحدات السياسية القائمة من ولايات وتوابع للدولة العثمانية لم يعد لها مبرر، كما توافقوا على أن الحل لن يكون بتبعيات جديدة لأنواع مختلفة من الاستعمار. وعندما تفتحت عيون الطفل النابغة كانت ثورة 1919 المصرية هي أول من حفر في ذهنه معنى السياسية والتغيير والانتقال من حال الولاية العثمانية إلى حال الدولة المستقلة. وعندما أغمض صاحبنا العظيم عينيه لآخر مرة كانت مصر مستقلة ومعها كل العرب، ولكن لا كانت أحوال مصر ولا أحوال العرب كما تمناها أو تصورها جيله الذي ذهب.

ورغم أن روايات نجيب محفوظ كانت في أغلبها محدودة المكان، وفي مرحلته الواقعية لم تتعد كثيرا تلك المساحة ما بين نهر النيل وحي العباسية في القاهرة، وفي مرحلته الرمزية لم تزد كثيرا عن حارة أو حي صغير، وأحيانا مقهي واحد أو نزل أو عوامة، فإن المعاني السياسية والآفاق الاجتماعية والروحية كانت بلا حدود حتى وصلت أحيانا إلى حافة المطلق حيث يهيمن «الجبلاوي» في «أولاد حارتنا» على كل شيء، وينتظر الجمع «عاشور الناجي» في «الحرافيش» لكي يأتي ويقيم العدل ويعم السلام. وما بين المحدود واللا محدود كان يوجد عالم لمؤلفنا مكون من حرية للإبداع، ومؤسسات للحكم، وعدالة اجتماعية تجعل للعامة نصيبا في السلطة والمال؛ ولكن عالمه المثالي لم يأخذ من الواقع الذي تكالبت عليه القوة الغاشمة ومعطياتها. وبشكل ما كان الروائي مدركا تماما لدراما الحكم، ومتعاطفا قطعا مع السلطة في نزواتها وخطاياها، ولم ينس أبدا أن يعطيها نوعا من الخلود في الصفات التي لا تنفك أن تكون نوعا من القوانين الأزلية.

لقد احترم محفوظ السلطة طوال حياته، ورغم تمرده عليها في أحوال كثيرة من خلال رواياته إلا أن الرمزية لديه أعطت السلطان مساحة من القبول بل وحتى الاحتفاء بالروائي العظيم وبالشخصية المعبرة عن المكنون الثقافي والحضاري الذي يبدو انه كان مصريا صميما، إلا أن كل قضاياه الأساسية كانت منتشرة بطول العالم العربي وعرضه. وببساطة كان القرن العشرون لدى محفوظ وغيره هو قرن تكوين الدولة العربية المنفصلة والمنشقة والمستقلة معنويا عن العالم الذي توجد فيه، وبشكل ما كانت بدايات محفوظ مع كفاح طيبة في العصر الفرعوني، ولكن نهاياته كانت في الأساس حول تحرير الإنسان في وطن حر. وببساطة كان المؤلف منتميا إلى فكرة ـ أو مجموعة أفكار في الحقيقة ـ ووضع إمكانيات تنفيذها في يد طبقة من «الأفندية» ـ أو البيروقراطيين المحترفين ـ كما فعل في الثلاثية (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، ولكن عندما وقعت السلطة في يد الضباط الأحرار لم يجد رجلنا ما يكتبه لفترة، وعندما واصل الكتابة مرة أخرى كان مدركا لأزمة النموذج كله، فعبر عنه في فندق صغير مأزوم (ميرامار) أو عوامة متأرجحة على حافة الغرق السياسي والمعنوي (ثرثرة على النيل). ولم يبق لمحفوظ في النهاية سوى التأمل فيما جرى عبر التجارب المختلفة يناقشها ويحاكمها (العائش في الحقيقة وقشتمر)، ومع ذلك لم يقدر له بعد خمسة وتسعين عاما عاشها أن توصل إلى سر الأزمة والعجز عن الانطلاق في الدولة المصرية ـ والعربية ـ المعاصرة.

وهكذا وصلنا إلى نهاية القرن العشرين، فقد كان القرن هو قرن التوسع في البيروقراطية العربية ـ المدنية والعسكرية ـ لأنها كانت تعبير الاستقلال بكل رموزه وأغانيه وحكاياته وملاحمه؛ إلا أن القرن العشرين كان قد أسلم الروح لقرن جديد بات فيه السؤال ليس عما إذا كانت الدول تحصل على الاستقلال أو لا، وإنما ما الذي سوف تفعله بعد الحصول على استقلال إرادتها. وللحق فإنه لم يكن لدى محفوظ أو غيره كثير من الإجابات، بل أن الشاهد أصبح عملية لتقويض الدولة العربية بل والمفاخرة بتقويضها. ولم تكن مغامرة حزب الله في لبنان خلال الأسابيع الأخيرة، ولا إعلان مرشد الإخوان المسلمين في مصر عن استعداده لحشد عشرة آلاف مقاتل، أو دعوة أحزاب ومفكرين لتكوين ميليشيات عسكرية وسياسية، إلا إرهاصات وصول الدولة العربية المعاصرة إلى طريق مسدود بعد أن باتت الحركة في المكان دعوة كاملة إلى التراجع إلى الخلف حيث تنفرط وتتبعثر حباتها الأولية بين جماعات وملل ونحل!.

وحتى وفاته لم يكن محفوظ قد أدرك تغير الكون، وكان في الغيبوبة عندما أعلن العلماء عن حذف كوكب «بلوتو» من المجموعة الشمسية، ولكنه عندما كان في قمة وعيه كان غائبا مثل جيله كله عن التطورات العالمية الجارية. وببساطة كانت فكرة الاستقلال والخصوصية والشخصية القومية والتعبيرات الذاتية الحضارية تعني في جوهرها عزلة عن العالم وانفصالا عنه لأنه بدا معبرا عن درجات مختلفة من التلوث المادي والمعنوي. ومن المدهش أن المنطقة العربية باتت رهينة مشروعين يقوم كلاهما على «العولمة» تمثل الولايات المتحدة الأمريكية واحدا منهما من أجل إدماج العالم العربي في العالم عبر الشرق الأوسط العظيم والكبير والجديد؛ ويمثل الثاني أشكالا مختلفة من الأصولية الإسلامية التي ترى في العالم، وليس في الدولة العربية، مسرحها الأساسي.

وما بين هذا المشروع وذاك، كان مشروع محفوظ الأساسي قد توقف عن الخفقان مفرزا قيادات مترددة في اتخاذ خطوات عملاقة، وخائفة من الخطوات الصغيرة، ومغرمة تماما بالتكيف مع المشروع الأول أحيانا، وممالأة المشروع الثاني أحيانا أخرى. ولم يكن معروفا أبدا إلى أين وصل المفكر قبل الروائي في رؤيته للمشروعين، وفي المرات القليلة التي أتيحت فيها مقابلته كان الرجل يستمع كثيرا ولا يتحدث إلا بإشارات، ولكن المرجح هو أنه كان رجل القرن العشرين، ومع وفاته لم يعد في القرن بقية. ولكن قضية الزمن هي التغيير، وقد تغير العالم بالفعل ليس فقط بفعل انتهاء الحرب البادرة، أو حتى ثورات التكنولوجيا المتعاقبة، وإنما لأنه بات من الضروري تغيير طبيعة الدولة من المنظومة المستقلة إلى المنظومة القادرة على البقاء والاستمرار في ظل منافسة قاسية. وفي مثل هذه الدولة فإن السلطة تمثل جانبا من الصورة، ولكن الأساس في الدولة الحديثة هو المجتمع، وتلك قصة أخرى لم يكتبها أحد بعد!.