إنهم يستحضرون العفاريت.. ثم يطالبوننا بصرفها!

TT

بعد خمس سنوات مما سمي بالحرب العالمية ضد الإرهاب، قرأنا تقريرا لرئيس وحدة مكافحة الإرهاب في بريطانيا (بيتر كلارك) أعلن فيه أن الموقف في بلاده «مقلق جداً». أيد ذلك الانطباع تقرير لجنة الاستخبارات والأمن البريطانية. وذكر أنه في عام 2001 قدر جهاز الاستخبارات الداخلية عدد المسلمين المشتبه فيهم بحوالي 250 شخصا. هذا الرقم تضاعف سنة 2004 حتى وصل الى 500 شخص. وفي العام الذي تلاه تزايد عدد المشتبهين من المسلمين الى 800 شخص. أما بعد تفجيرات لندن عام 2005 فقد وصل عدد المشتبهين المسلمين الى آلاف لم يتم حصرها بعد، أو لا يراد الإفصاح عنها في الوقت الراهن. هذا التزايد في أعداد المشتبهين تزامن مع تزايد مماثل في أعمال واحتمالات العنف في بريطانيا، والتي أعلنت عنها الأجهزة الأمنية، إذ بعد تفجيرات القطارات التي شهدتها لندن في يوليو (تموز) عام 2005، أعلن في شهر أغسطس (آب) من العام الحالي عن القبض على مجموعة من 20 شخصا قيل إنهم ضالعون في مخطط تفجير طائرات متجهة الى الولايات المتحدة. وقبل أيام قليلة في (2/9 الحالي) تم اعتقال 16 شخصا جديدا تطبيقا لقانون الإرهاب. وحسب توجيهات المصادر الأمنية، فان هذه المجموعات مستقلة، ولا علاقة بين بعضها البعض، الأمر الذي استنتج منه الخبراء أن ثمة تعددا في الخلايا التي يشتبه في إقدامها على عمليات إرهابية داخل بريطانيا.

لم تكن المنظمات الإسلامية في بريطانيا وحدها التي أعلنت أن سياسة حكومة بلير في الشرق الأوسط، بوجه أخص منذ مساندتها للولايات المتحدة والاشتراك معها في غزو العراق، كانت من بين الأسباب التي فجرت مشاعر التعصب بين الشبان المسلمين في بريطانيا، ذلك أن هذا التحليل أصبح محل اتفاق بين أغلب المثقفين الإنجليز الذين عبروا عن آرائهم في هذا الصدد في العديد من التعليقات الصحفية والبرامج التلفزيونية، بل إن هذا هو أيضا رأي المسؤولين عن أجهزة الأمن، وهو ما تجلى في التصريح الذي أدلى به لهيئة الإذاعة البريطانية بيتر كلارك رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في شرطة اسكوتلانديارد، وتحدث فيه عن تعلق الشبان المسلمين الإنجليز بالحاصل في العراق، وكان من الخلاصات المهمة التي خرج بها مراسل «بي بي سي» بعد أن حقق في الأمر طيلة عام كامل، أن الصراع في العراق هو السبب الرئيسي لتطرف الشبان المسلمين هناك.

بشكل مواز، أعلنت الشرطة الألمانية أن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام والتي نشرتها الصحف الغربية، كانت الدافع الرئيسي وراء المحاولتين الفاشلتين لتفجير قطارين غرب ألمانيا خلال شهر يوليو الماضي، أثناء استضافة ألمانيا لبطولة كأس العالم لكرة القدم، بحسب ما ذكرته صحيفة «فيست دويتش» الألمانية في (2/9)، إذ نقلت الصحيفة تصريحات لرئيس الشرطة الفيدرالية الألمانية، يورج زيركير قال فيها إن المشتبه فيه الرئيسي في الهجمات، يوسف الحاج ديب، اعترف خلال التحقيقات بأنه بدأ التخطيط لتفجير القطارين بعد تواتر نشر الرسوم المسيئة للرسول في العام الماضي، حيث شرع فريقه في مراقبة مواعيد القطارات تمهيدا لتفجيرها وتوصيل رسالة الاحتجاج والغضب الى المجتمع الغربي.

ما الذي يعنيه ذلك؟

لا يحتاج المرء الى بذل جهد كبير للإقرار بأن ما سمي بالحملة على الإرهاب حققت فشلا ذريعا. ليس ذلك فحسب، وإنما كانت سبيلا الى توسيع دائرة الإرهاب وتعميمه، وهي خلاصة مهمة. يستغرب المرء كيف أن أصحاب القرار في الدول التي أعلنت تلك الحرب المزعومة لا يريدون الاعتراف بها، ويصرون على استمرار السياسة نفسها التي أوصلت الأمور الى ما وصلت اليه، وتتضاعف دهشة المرء حين يقرأ وسط هذه الأجواء كلاما صدر عن الرئيس بوش، قال فيه انه إذا لم يتم دحر الإرهاب في بغداد، فانه سيتعين على الأمريكيين وقتئذ محاربته في شوارعهم. في إشارة موحية تثير الشك في مسلك المسلمين الأمريكيين، وفي الغرب عموما.

لابد أن يلاحظ في هذا الصدد أن العالم الإسلامي شهد خلال الفترات الخمس الماضية ما لا حصر له في الإجراءات والمراجعات التي يفترض أنها تعبير عن التجاوب مع الحرب المفترضة ضد الإرهاب. وبصرف النظر عن رأينا في جدوى ومدى الصواب في تلك الإجراءات، فالشاهد إنها حدثت، في حين أننا لم نجد خطوة واحدة في الجانب الآخر، موحية بأن ثمة مراجعات من جانبهم، سواء في السياسات والمواقف التي استفزت الضمير الإسلامي وأهانته، أو في الخطاب الإعلامي الذي ما برح يجرح المسلمين ويستثير المشاعر ضدهم، مرورا بمناهج التعليم التي ما زالت تحمل أصداء وبصمات الحروب الصليبية بما تضمنته من تحريض واستثارة ضد المسلمين كافة. وذهب بعض الساسة الغربيين الى أبعد، الأمر الذي تجلَّى في استخدام الرئيس بوش لمصطلح الفاشية الإسلامية، اشك في انه يعرف المدلول الحقيقي لكلمة الفاشية كما حدث في إطلاقه وصف الحروب الصليبية عنوانا للحرب ضد الإرهاب. تجلى ذلك التحامل أيضا في غمز رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في الثقافة الإسلامية وتحقيرها من جانب برلسكوني رئيس الحكومة الإيطالية السابق.

استمرار هذا الموقف لا يبشر بالخير، ذلك أن من شأن تلك التعبئة المعادية للمسلمين والجارحة لهم أن توقظ لدى المواطن الغربي شعوره بالتوحش والبغض إزاء المسلمين، خصوصا المقيمين منهم في الغرب،

(عددهم في أوروبا والولايات المتحدة بين 25 و30 مليون مسلم). ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك الى تعميق الفجوة بين المسلمين والمجتمعات المحيطة بهم ونحن لا نتحدث عن افتراضات لأن ذلك حدث بالفعل ليس فقط في الولايات المتحدة التي يتحدث ممثلو المنظمات الإسلامية فيها عن تزايد مستمر في مظاهر الكراهية للمسلمين في مختلف الولايات، ولكن ذلك حاصل أيضا في أوروبا، التي كنا الى عهد قريب نعتقد أنها اقرب الى العالم العربي والإسلامي، ومن ثم اكثر فهما له وتجاوبا معه. ورغم أن ذلك الانطباع لا يزال صحيحا الى حد كبير، إلا إننا ينبغي ألا ننكر أن مظاهر الخوف والقلق زحفت الى بعض القطاعات، حتى في بريطانيا التي لها رصيدها المعتبر في احترام تعدد الثقافات.

وفي إسبانيا التي تحتل مكانة خاصة في الذاكرة العربية، بحسبانها صديقة للعرب والمسلمين. في هذين البلدين بوجه أخص تعددت في الآونة الأخيرة وقائع النفور من المسلمين والتوجس منهم، الى الحد الذي دفع بعض ركاب الطائرات الى الامتناع عن الصعود اليها لمجرد أن بين الركاب عددا من المسلمين!

في هذه الأجواء تصبح مسألة التعايش بين الجاليات المسلمة والمجتمعات الغربية في خطر، ولا يغدو هناك محل لأي حديث عن حوار الحضارات، لكن أخطر ما في الأمر أن المناخ سيظل مهيأ لمزيد من مظاهر العنف، الذي قد يدفع اليه نفر من أبناء المسلمين الذين اصبحوا مواطنين في تلك الأقطار.

ما العمل إذن؟

للأسف، لا يبدو أن في الأفق حلا ممكنا لذلك الإشكال، فالعالم العربي والإسلامي لا يملك الكبير الذي يمكن أن يفعله، في الوقت ذاته فان السياسيين الغربيين الذين نسمع أصواتهم في الأقل، ليسوا على وعي كاف بأن السياسات الغربية في المنطقة هي العامل الأكثر تأثيرا في تفجير مشاعر الغضب بين شباب الجاليات المسلمة في أوروبا والولايات المتحدة؛ وبالتالي فانهم لا يرون جذور المشكلة ويصرون على التعامل مع تداعياتها وأصدائها، ولا يريدون أن يعترفوا بان إصرارهم على قهر المسلمين وإذلاهم هو المفجر الأول للمشاكل التي يعانون منها. وأية عوامل أخري اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية، تأتي تالية في الترتيب، على الحاصل في فلسطين والعراق من جرائم لها امتدادها التي تابعناها في أفغانستان ولبنان.

إننا نقرأ تصريحات للرئيس بوش يتحدث عن ضرورة التعامل مع جذور المشكلة، وذلك كلام طيب، لا نلبث أن نكتشف في نهاية المطاف أن التعامل مع الجذور يراد به التسليم بالحلول التي تريدها إسرائيل وتستجيب لطموحات الهيمنة الأمريكية في المنطقة.

لقد بحت الأصوات في العالم العربي من كثرة الحديث عن نبذ العنف وضرورة الاعتدال. والالتزام بالوسطية والتسامح و...و.. الخ لكن تبين أن هذا كله لا يمكن أن يحقق مردوده داخل العالم العربي أو خارجه طالما استمر إرهاب الدولة الإسرائيلية ليس فقط في فلسطين وإنما وجدناه في لبنان مؤيدا من قبل الدول الغربية الكبرى، وطالما استمر الاحتلال في العراق.

في الأمثال العامية المصرية أن الذي استحضر العفريت هو الذي يتعين عليه أن يصرِفَهُ، لكن الغربيين في حالتنا هذه يستحضرون «العفاريت» ثم يطالبوننا نحن بصرفها!