صرْخَة الصَّرْخي!

TT

هناك في وادي الفرات الأوسط، دائر الحلة وكربلاء، ظهرت جماعة تنادي بما نودي به، من قبل، في غزوات وثورات: «يا منصور.. أمت أمت». تدعو هذه الجماعة إلى رجل دين يُدعى آية الله محمود الحسني الصَّرْخي. كان مشهدهم، وهم يستعرضون قوتهم في طرقات الحلة، مثيراً للانتباه والتساؤل: يرتدون الأزياء الرياضية، ونقشت على قمصانهم صورة قائدهم. هذا، ولا يخفي وجودهم في مركز البصرة.

ورداً على دعوة الصَّرْخي إلى مرجعية عراقية أشيع أنه يتحدر من صُرْخ الإيرانية، مع أن الحموي في «معجم البلدان» يراها اسم جبل بالشام، وأن ما بإيران هي صُرْخِيان، وعليه يكون الصُرْخياني لا الصَّرْخي. أما وكيله بكربلاء الشيخ أبو باقر الخاقاني فيقول: إنه عراقي، ومن أولاد الحسن بن علي، والاسم نسبة إلى لقب جده الأعلى الصَّرْخَة. ووجدت من معاني المفردة الأذان، فلعل جده هذا كان مؤذناً.

كان وراء انتقاء «يا منصور..» شعاراً هو فكرة الجذب والتأثير بما يناسب هيمنة الشعارات الدينية والمذهبية، وتمرير ما يراد تمريره عبرها. قيل كان «يا منصور..» شعاراً للمسلمين ببدر، وأُحد، والمصطلق، وخيبر، ولسرية إسامة بن زيد (السنة 11هـ)، ونادى به المسلمون عند فتح الشام، وفي معركة الجمل بالبصرة. وبعدها أصبح شعاراً للحركات الشيعية بالكوفة: نادى به مسلم بن عقيل (قتل 61هـ)، والمختار بن عبيد الله الثقفي (قتل 67هـ)، وزيد بن علي (قتل 122هـ)، ونادى العباسيون بالشعار في المعركة الفاصلة (132هـ) مع الأمويين، والتي دارت رحاها على ضفاف نهر الزاب من شمال العراق.

أشارت هذه الخلفية إلى عناية انتقاء الشعارات اليوم بالعراق، ومواءمتها للروح الخاوي من فكرة المستقبل. ولا تعني عبارة الأمويين الجدد، والصفويين الجدد، إلا التشديد على تراجعات الماضي، لا تقدمياته العديدة. ويبدو الأمر محمولاً من الغلو في توظيف الشعار الديني خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، التي أصبح فيها العراقيون، ولمدة ثماني سنوات كفاراً، حسب الإعلام الإيراني، بينما أمسى الإيرانيون مجوساً، حسب الإعلام العراقي. وما نقشت عبارة «الله أكبر» على العلم العراقي إلا لأسلمة احتلال الكويت!

تبدو مجاراة مزاج العامة، عبر شعاراتها، هي الحال العراقية الأبرز، ومن هنا يجري استلابها وتحويلها إلى متاريس متصادمة. فلا تفكير في مصالحها وحقوقها لدى الكيانات الساعية إلى تخديرها بالتكثير من مناسبات الحزن، والتواطؤ مع مخلفات الماضي ضدها: الإكثار من الخطاب الديني، ومن الأذان بتفاصيل أكثر من استحباب الأذان نفسه وبقسمة مذهبية، والاحتفال بوفيات وولادات مقدسة. أي أن استحضار المشهد الديني والمذهبي على مدار فصول السنة لا يترك للعراقي الصحوة من شجون الزمن الغابر، وفرض الانقياد للرموز الدينية، التي حلت محل رمز الأمة والقائد الضرورة.

ومن المعلوم، ليس من السهولة، بمكان، تخلي العامة عن فكرة الرمز والفتى الأول، بعد أن ضخت في أدمغتهم لعقود من الزمن. لذا تجدهم بغمضة عين استبدلوا صور صدام بأكثر من صورة، وفي الأمكنة نفسها، بل ورسمت وعُلقت وتُحرس بالأيادي والعيون نفسها. وكم تبدو الحالة شوهاء وبائسة وكاذبة إذا قلبت ناظرك في الخراب المتراكم تحت تلك الجداريات، وهي تعلو بوابات المدن والقرى. أياً كان صاحب الجدارية، وما له من حظوة وقدسية، أراه يتحول، بمرور الأيام، إلى رمز لتشويه فكرة العدالة كأمل. وفي هذا الظرف الخرافي لم يعد خطاب الصَّرْخي نشازاً.

بطبيعة الحال، ليس للمرجعية الدينية النجاة من تأثيرات زلزال التاسع من أبريل (2003). أعني إشاعة تعدد المؤسسات والآراء والعقائد. وقبل ذلك، ما كان أحد يجرؤ على الانفلاق المرجعي إلا بتسهيل من السلطة، وعلى خلفية معاكسة المرجعية الفارسية بمرجعية عربية، منها تسلم المرجع المرشح من قِبلها لتأشيرات إقامة علماء وطلبة الحوزة الدينية الأجانب بالنجف، والتمكن من دفع رواتب وإعانات، وقبول مرشحيها لاعتمار العمائم. وكان من مظاهر الرضى الحكومي غض الطرف عن التجمع الكبير في صلاة الجمعة، وهي الصلاة التي يرى كبار علماء الشيعة عدم جوازها إلا في ظل إمام عادل. بيد أن صدام لم يصبر على رؤية جماهير تلتف حول غيره سواء كان رجل دين أو مغنٍ.

في ظل هذه المرحلة الخرافية، من تاريخ العراق، تقدم السيد محمود الصَّرْخي بمرجعيته، وكأحد البدلاء الكثيرين للرمزية التي اكتشفت حقيقتها في الحفرة أمام أنظار العالم. ومن دواعيه: نيابة الإمام الغائب بالأعلمية. وربما يفهم من تأسيسه لحوزة باسم الإمام جعفر الصادق، وهو أساس الرواية والفقه الشيعيين وتأسيس حزب باسم «الولاء»، تأكيداً لتلك النيابة. وبالتالي اللعب على فكرة ولاية فقيه عراقية، ومعاداة أمريكا وإيران على السواء، ومخالفة الدعوة إلى الفيدرالية. وبهذا تضع الصَّرْخية، إن صحت التسمية، بمرجعيتها المبتكرة نفسها في مواجهة: دينياً مرجعية آية الله علي السيستاني، وزملائه المراجع الكبار، ومرجعيات التيار الصدري، وتواجه سياسياً فرقاء الائتلاف الشيعي عامةً.

كانت مهاجمة القناصل الإيرانيين بالعراق أول ظهور واسع للصَّرْخية، على خلفية تصريحات الشيخ اللبناني علي الكوراني عبر قناة إيرانية ضد مرجعهم: غير مؤهل، ويدعي ملاقاة المهدي.. الخ! أما المعارك بكربلاء، وإن قيل إنها ضد الزوار الإيرانيين بجناية تلك القناة، لكن، الحقيقة كانت بسبب خلافات حول أموال نذور الحضرة الحسينية، وهي أموال طائلة. وإثر المواجهات الدامية، على النذر لا الوطن، يحاول الصَّرْخيون إضفاء مسحة مباركة على اختفاء صاحبهم، وهي الغياب لدفع المضرة واقتناص الزمن (المبارك) للظهور. وهي محاولة للتماثل مع غياب المهدي. قال شيخ الطائفة الطوسي (ت 460هـ): «لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل»(كتاب الغيبة). وقد تمثل بهذا الغياب، من قبل، المدعي بنيابة المهدي الباب علي محمد الشيرازي (أُعدم 1850) في استتاره وظهوره. ومَنْ يدقق في هيئتي الشيرازي والصَّرْخي، عبر صورتيهما، يجد التقارب واضحاً في الإيهام ببشارة مؤملة.

عموماً، تأتي صَّرْخَة الصَّرْخي واحدة من صَّرْخَات تعبر عن حالة اضطراب عراقية قصوى، واستصغار للعقل السياسي العقلاني، بل ومحاولة للتعالي على وجود العقل، والتحاسد والتسابق على إشغال العراقي المحمل بخلفية ثقافة الرمز والوهم، باحتكار الشرعية! أما المواطن فأصبح مشروعاً للتظليل. وإلا بأي منطق، سياسي أو اقتصادي معاصر، تسوغ المعارك من أجل نيابة الغائب! وكيف يُراد لعقيدة دينية أن تتحول إلى علم يَحل معضلات العراق؟ [email protected]