خمس الحواس

TT

هل تعرفون ما هي أكبر نعمة منحها الله للإنسان؟! قد تقولون الصحة، أو طولة العمر، أو كثرة المال، أو الوسامة، أو السلطة، أو العقل، لا أبداً هذا خطأ خطأ. وأزيد عليه من عندي كذلك، وأقول بالخط العريض خطأ.. فأكبر نعمة في ظني هي (الدهشة)، نعم هي الدهشة التي هي التعجب.. وهي موجودة بغزارة عند الأطفال، غير انه للأسف القليل فقط من الكبار ما زالوا محتفظين بها.

إن روعة الحياة إنما تكمن بالاكتشاف، ولا اكتشاف هناك بدون تعجب وسؤال واندهاش وإمعان نظر وتجريب وتحدٍّ.. إن مَنْ يُمنونَ أنفسهم بالدوران حول العالم ومشاهدة عجائب الدنيا غفلوا عن اكتشاف الصور المتكررة التي يشاهدونها كل يوم في حياتهم العملية الواقعية.. ولا أنسى جواب رجل سألته، وهو على وشك أن يأخذ إجازته: أين ستقضي إجازتك؟ فقال لي: سأقضيها هنا في بلدتي. وعندما لاحظ استغرابي قال لي: إنني ذاهب إلى هنا عبر لندن وباريس وبرلين وأثينا. إنني عندما أرجع إلى هنا تكون سحابة التكرار والعادة قد انزاحت من ناظري وتنتابني بعدها حُمَّى المقارنة والاكتشافات. إن اكتشاف الوطن والبلدة والحارة والشارع الذي أعبره يومياً لا تعادله روعة.

العين المجردة هي المقياس لكل رتابة ولكل تجديد، فمن الممكن أن تعمي عينك وأنت تبصر. وبالمقابل فمن الممكن أن تتحول عينك إلى عين سمكة تبصر بزاوية مقدارها 180 درجة، أو تتحول عينك إلى عين بومة تخترق حُجب الظلام الدامس وتشاهد جرذا على بعد عدة أميال، أو تتحول عينك إلى عين ذبابة بها (ألف بؤبؤ وبؤبؤ). ومن الممكن أن تتحول عينك إلى عين لص تعرف تماماً كيف ترصد الضحية، أو عين قاتل يعرف تماماً متى وكيف يسدد الرمية، أو عين ساحر يعرف تماماً كيف يسيطر على الآخرين (مغناطيسياً)، أو عين عاشق يعرف تماماً كيف يمرغ وجهه على جيد معشوقته.

لقد قال لي أحدهم يوماً ونحن نتناول الأكل في مطعم: إنني محروم من نعمة التذوق، ومن يومها أصبحت فرحانا جداً لأنني قادر على التذوق، إلى درجة أنني ألهبت لساني من شدة الفرحة دون أن اشعر، أصبحت كلما أردت أن اشعر بنعمة البصر أغمض عيني طواعية لمدة ساعة كاملة وأسير متخبطاً وكثيراً ما انلوت ساقي وكثيراً ما شج رأسي، ولكنني في النهاية أكون قد حققت مكاسب واكتشافات لا يمكن أن أنساها.. وبقدر ما أنا فرحان بلساني وعيني فأنا كذلك فرحان جداً بأنفي الذي يتلذذ بأريج الوردة، و(البارفان) إذا ما تسلل إليه بطريقة غير مباشرة من انثى تستحق أن تكون فعلاً أنثى لا بقرة، وافرح أكثر بحاسة أذني عندما تسمع حفيف النسيم، وثغاء الخروف، ونقيق الضفدع، و(ترغلة) الطفل، وصدح الموسيقى التي تتجاوب معها كل خلية من خلايا جسدي بدون أي تحفظ أو قانون أو دستور.. وأفرح أكثر وأكثر بملكة الحواس جميعاً، ألا وهي حاسة اللمس، التي إذا مررتها على الشوك انقلب حريراً، وإذا مررتها على التمساح انقلب أرنباً، وإذا مررتها على الشيطان انقلب ملاكاً.

[email protected]