11 سبتمبر .. جدران الحرب الوقائية

TT

رأى الاميركيون ذلك الصباح، ان شيئا مثل هيروشيما، جاء هذه المرة في الاتجاه المعاكس وعلى طائرات مدنية وعلى ايدي شبان تدربوا في اميركا وفي اوروبا. ومنذ ذلك الصباح سوف تتغير الحياة في المدن حول العالم. فالضالعون يسكنون في مكان. وعند الضرورة يدخلون جميع الحانات حليقين. وهناك لغة تخاطب سرية فيما بينهم تشبه اساليب المافيا في التراسل. لا ورقة ولا قلم ولا هاتف ولا حمام زاجل الا اشد المؤتمنين والموثوقين. ولذلك تحولت المدن الى مدن للخوف كما كتب المفكر الفرنسي بول فيريليو في واحدة من ابدع المطالعات حول العصر الجديد الذي دخلنا فيه. المطارات مرتعبة والموانئ وقطارات المساء. ولم يعد ثمة مكان آمن. واصبحت الارض كلها مفتوحة، أو كما قال احد الكوميديين «ان الارض مسطحة، لكنها مستديرة فقط عند اطرافها». وعلى هذه المسطحة غيّر التلفزيون نمط حياتنا جميعا. فالقتل والموت والابراج كلها برنامج يومي من ضمن «البث المباشر». وعلى هذا الايقاع السريع يصبح ضحايا اليوم منسيي الغد. فمتى خرج الموت من البث المباشر خرجوا من الذاكرة البشرية التي لا طاقة لها على هذا الحد من الاحصاءات وتذكر ذوي الملامح المهمشة. ولم يعد معروفا ان كانت الحروب تقع من اجل التلفزيون والبث المباشر. انه برنامج يتعهد ان ينقل الى بيوتنا كل لحظة صور الموت واخبار الدمار واوضاع عالم شديد البؤس. ويتكفل «البث المباشر» في إغراق الانسانية جمعاء بمناخ الحداد والجنازات، واكثرها طبعا في هذا الجانب الارض. لقد لخص الكاتب غازي احمد المسألة ببساطة: «يقتلون اطفالنا فنقتل اطفالهم. لا مكان آمنا بعد اليوم. لن نوفر مدنيا او فردا. انها حرب مفتوحة لا حدود فيها ولا محظورات». بدت هذه الكلمات واضحة عندما لف شبان بريطانيون من باكستان قنابلهم في اكياس من الورق وذهبوا يفجرونها في الحافلات التي تنقل اهلهم ورفاقهم واطفال اصدقائهم. قبل ان يكتب غازي احمد تحذيره كان وزير النقل الاسرائيلي يوسف بارتيسكي قد قال «يجب ألا ننسى اننا نحارب ارهابيين وليس مدنيين ابرياء».

امام هذا المشهد قبل تستبدل في غد غير بعيد، وزارة الحرب بوزارة الرعب. ولعل ابرز رمز لهذا الواقع ما يعرف بالمنطقة الخضراء في بغداد. ففيما يموت في العراق ويصاب ويخطف مئات الناس كل يوم، وجميعهم من المدنيين، يبرز المقر الذي بناه المستر بريمر بمعالمه المذهلة: جدار علوه خمسة امتار وسماكته نصف متر، واما مساحة المنطقة الامنة فخمسة كيلومترات. هكذا تنتهي الحروب الوقائية التي شنتها اميركا واسرائيل. انها افشل الحروب في التاريخ. لكنهم يصرون على تكرارها ورفع الجدران العالية في كل مكان.