عندما يصبح قول الحقيقة ترويجاً لثقافة الاستسلام والهزيمة..!

TT

كما في كل مرة بعد كل معركة خاسرة خاضها العرب، أو بعضهم، منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن بادر الذين رأوا صورة صدام حسين ذات يوم على وجه القمر والذين لم يخجلوا حتى من أنفسهم ورددوا وراءه: «يا محلى النصر بعون الله» الى اتهام كل من وضع إشارة استفهام أمام «انتصار» حزب الله في الحرب الأخيرة بأنه يروج لثقافة الاستسلام وأنه يحاول اغتيال فرحة الأمة بهزيمة واندحار عدوها.

لم يسلم كل من حاول ان يكون موضوعياً ولو في الحد الأدنى وكل من لم ينضم الى جوقة المطبلين في حزب «محطة الجزيرة» الذين أشعروا المواطن العربي المسكين الذي هدَّت حيْله الهزائم بأن إسرائيل هُزمت في الحرب الأخيرة هزيمة ما بعدها هزيمة وأنه لم يبق سوى إلقاء الشعب الإسرائيلي في البحر ليصبح أطفاله طعاماً للأسماك «المتجوعة»!!

في يونيو (حزيران) عام 1967، وبينما كان المواطن العربي لا يزال يصدق البيانات العسكرية التي كانت تتحدث عن ان طائرات «العدو الصهيوني» الحربية تتساقط كالذباب ظهر على شاشة التلفزيون السوري شاعر فلسطيني، لا يزال يقيم في دمشق، ودعا أبناء الأمة العربية من المحيط الى الخليج الى قضاء فصل الصيف على شواطئ نهاريا احتفالاً بالنصر المؤزر على «دولة الكيان الصهيوني اللقيطة» !!.

ويومها، حتى بعد ان ثبت كم ان كذبة الانتصار المؤزر هذه كانت بحجم الهزيمة المنكرة التي جعلت الجنود الإسرائيليين يستحمون في مياه قناة السويس ويمارسون هواية «التزُّلج» على ثلوج سفوح جبل الشيخ ويؤدون شعائرهم الوثنية أمام حائط البراق في القدس، شكل مثقفو هز الأرداف وتسويق الهزائم على أنها انتصارات «ميليشيات» تفننت في مطاردة كل من حاول.. رفع رأسه وحاول أن يقول ولو الحد الأدنى من الحقيقة واتهامه بالسعي لاغتيال فرحة الأمة بانتصارها الذي تحقق لأن «العدو الصهيوني» لم يفلح في إسقاط الأنظمة الثورية رغم أنه احتل فلسطين كلها ووصل جنوده الى قناة السويس والى مشارف دمشق.

حتى قبل خطابات «الانتصار الاستراتيجي التاريخي التي تناوب عليها حسن نصر الله والرئيسان بشار الأسد ومحمود أحمدي نجاد، بدأت جوقة هزِّ الأرداف باتهام كل من حاول أن يسأل عن حقيقة ما كان يجري في الجنوب اللبناني وفي لبنان كله، بأنه يريد اغتيال «فرحة الأمة» بنصرها العظيم أنه يروج لثقافة الهزيمة والاستسلام!.

لا يجوز لأي لبناني وعربي أن يسأل حتى ولو مجرد سؤال عن حقيقة وصحَّة الانتصار الذي تحقق، والذي بشر «الأمة» به الرئيسان بشار الأسد ومحمود أحمدي نجاد وأهداه الى هذه الأمة الشيخ حسن نصر الله ، ما دام أن لبنان تحول الى كومة من الحجارة ، وأن الجيش الإسرائيلي وصل الى نهر الليطاني، وان خسائر الاسرائيليين اقتصرت على مائة وخمسين قتيلاً من بينهم خمسين عربياً من سكان منطقة الجليل.

كل من تساءل عن صحة هذا الانتصار الذي تحقق، وأهداه حسن نصر الله لسوريا وإيران وللأمتين العربية والإسلامية، ما دام ان حزب الله اضطر لاستجداء وقف إطلاق النار استجداء وما دام ان النتيجة كانت قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي من أين نظر إليه المراقب المحايد سيجده عبارة عن إملاء المنتصر شروطه على المهزوم ، لم يسلم من تهمة الانحياز للعدو الصهيوني، وترويج ثقافة الهزيمة وتسويق الشكوك بينما المعركة لا تزال محتدمة .

لم يتغير أي شيء رغم كل هذه التجارب المرة «المريرة» فـ«جوقة» ثقافة المقاومة والممانعة اتبعت كل الأساليب حتى الأساليب القذرة لإخراس الأصوات التي ارتفعت لتسأل عن الحقيقة وإرهاب أصحابها لتمرير كذبة «الانتصار التاريخي الاستراتيجي» وذلك على غرار ما حدث عندما هزج صدام حسين: «يا محلى النصر بعون الله»، ويومها لم يكتف فرسان النفط المهرب بترديد ما قاله مبعوث العناية الإلهية الذين رأوا صورته على وجه القمر بل ولجأوا الى إرهاب كل من تساءل عن صحة ما يقال باتهامه بأنه يرِّوج لثقافة الهزيمة وأنه يريد اغتيال فرحة الأمة بانتصارها.

اعترف حسن نصر الله بأن قرار اختطاف الجنديين الإسرائيليين في الحادي عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي اتخذه المكتب السياسي لحزب الله بإجماع أعضاء مكتبه السياسي الخمسة عشر، كان مغامرة غير محسوبة العواقب، وأنه لو كان يعرف ان ردَّ الفعل الإسرائيلي سيكون واحد في المائة مما حصل فإنه «مطلقاً» لا يمكن ان يتخذ هذا القرار .

لكن ورغم اعتراف حسن نصر الله نفسه وعلى رؤوس الأشهاد، بأن قرار اختطاف الجنديين الإسرائيليين كان مغامرة غير محسوبة العواقب، فإن جوقة التدليس وتسويق الهزائم، على أنها انتصارات استراتيجية تاريخية، استمرت في عزف ألحانها الشجية وبقيت تتهم حتى من تساءل عن الحقيقة متأخراً بأنه يروج لثقافة الهزيمة وأنه يريد اغتيال فرحة الأمة بانتصارها العظيم ! .

«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وكانت خيانة ما بعدها ان يُقال أن هذه الحرب ليست حرباً لبنانية ـ إسرائيلية وأنها في حقيقة الأمر حرب على لبنان استدرجها إليه القرار الخاطئ الذي اعترف به حسن نصر الله وأنها حربٌ لا علاقة للشعب اللبناني بها طالما ان قرارها اتخذ من وراء ظهر الحكومة اللبنانية وبدون علمها وطالما أنها لا تخدم سوى إيران وتحالفها الإقليمي الذي يمتد في هيئة هلال سياسي من حركة «الحوثي» في اليمن وحتى قواعد بعض التنظيمات الفلسطينية في جنين وغزة . حتى القول إنه غير صحيح ان الحرب حققت وحدة وطنية وراء حزب الله وحسن نصر الله كان يعتبر ثقافة هزيمة مشبوهة وتشكيكاً مرفوضاً لأن المعركة محتدمة وحتى القول أنه لا يحق لحزب واحد ان ينفرد بقرار الحرب والسلام وأن يفرض نفسه وقراراته على كل الشعب اللبناني ويشكل دولة داخل الدولة كان ولا يزال يعتبر من المحرمات ، وكان أقل ما يوصف به قائله أنه طابور خامس وأنه ضد المقاومة والممانعة و«أنه دبٌّ وليس خلقة رب»..! .

منذ اللحظة الأولى لم تكن هذه الحرب الظالمة حرباً لبنانية ـ إسرائيلية بل كانت حرباً إيرانية ـ إسرائيلية ومنذ اللحظة الأولى لم تكن هذه الحرب حرب الشعب اللبناني كله بل حرب حزب وضع نفسه، منذ إنشائه على حساب حركة «أمل»، في «فسطاط» طهران ودمشق وكانت مرجعيته ليس الحكومة اللبنانية وإنما الولي الفقيه في طهران و«فيلق القدس» الإيراني، وقيادة الأمن المستعار في عنجر في وادي البقاع اللبناني .

حتى الطائفة الشيعية العادية الطبيعية لم تكن هذه الحرب حربها، ويثبت هذا الآن بعد ان برد الجرح حيث بدأت الأغلبية الصامتة المغلوب على أمرها في هذه الطائفة برفع صوتها في وجه المصادرة والاستفراد ولعل ما قاله السيد علي الأمين في آخر تصريحات له يثبت هذه الحقيقة التي ترفضها بالطبع «جوقة» ثقافة المقاومة والممانعة.

ليس كل شيعة لبنان، الذين لا يستطيع أيٌّ كان إنكار أنهم تحملوا عبء تحرير الجنوب اللبناني، أيدوا حزب الله في المغامرة التي أحلَّت بمناطقهم وبلبنان كله كل هذا الدَّمار والخراب ، وباقي الطوائف اللبنانية ليست راضية عن تحول حزب الله الى دولة داخل الدولة اللبنانية . والدليل على ذلك البيان الأخير الذي أصدره مجلس المطارنة الموارنة وما بات يقال في أوساط الطائفة السنية وما كانت قالته الطائفة الدرزية على لسان قائدها وزعيمها وليد جنبلاط ولا تزال تقوله .

الآن بدأت الحقائق تتكشف والمفترض ان باعة وتجار الانتصارات الكاذبة أدركوا ان ما قاموا به خلال الحرب الأخيرة، وخلال حروب صدام حسين الخاسرة الكارثية، وقبل ذلك خلال حرب يونيو (حزيران) 1967 وبعدها، هو مجرد كذب ونفاق وتدليس على الناس الأبرياء الذين بات أهم انتصار بالنسبة إليهم هو ألا يعرفوا الحقائق في أوقات متأخرة .