بين المغرب ولبنان والعرب : تاريخ دعم صامت

TT

لبضعة أيام خلت، وقف السيد الرئيس السوري بشار الأسد مخاطبا مؤتمر الصحافة، بحضور المسوؤلين الرسميين والحزبيين والأمنيين وأعضاء مجلس الشعب المسمى البرلمان السوري، ليجول بخطاب مطول شامل وليتلقى كالعادة التصفيق الحاد وهتافات التأييد من الحضور جميعه، بدون استثناء، عملا بالديمقراطية المعهودة...

نقطتان أساسيتان استوقفتاني في هذا الخطاب:

الأولى: اتهامه لجماعة 14 آذار (مارس)، وهي القوى السياسية الوطنية المتحالفة بوجه الوصاية، بالعمالة للعدو الصهيوني ولأسياده في مجلس الأمن، الذي قضى بقراره رقم 1701 بوقف النار ونشر الجيش اللبناني وقوات دولية في منطقة الحدود مع إسرائيل ومراقبة الحدود اللبنانية الأخرى، فحق لنا أن نسأل كيف للرئيس السوري أن يمتدح المقاومة اللبنانية على خروجها بانتصار على إسرائيل ثم يحجب عن اللبنانيين النصر، من خلال مهاجمته لقرار مجلس الأمن، الذي جاء، برأيه، يمحو هذا النصر ؟ ثم كيف انزلق إلى اتهام الأكثرية اللبنانية الحاكمة، في مجلسي النواب والوزراء، التي وقفت بجانب المقاومة بشكل أدى إلى صيانة الوحدة الوطنية، مما حال دون خلق فتنة في صفوف الشعب اللبناني، لو حصلت، لفاقت بأهميتها كارثة القتل والتدمير والتشريد، التي أدى إليها العدوان الاسرائيلي، فهل هذا ما هدف إليه الرئيس الأسد ؟ لعله كان يحلم بالعودة إلى لبنان من النافذة، بعدما أخرجه من الباب شهداء عهد الوصاية السورية ودم الرئيس الشهيد رفيق الحريري وثورة الأرز وقسم الشهيد الصحافي الجريء النائب جبران تويني بالدعوة إلى الوحدة الأبدية بين المسلمين والمسيحيين.

الثانية: تهجمه المشين على الدول العربية، واصفا بعض رؤسائها بأشباه الرجال ؟ فطالما أنه يعتبر نفسه رجلا كاملا مؤهلا لتصنيف الرؤساء رغم حداثة سنه الزمني والرئاسي، فلماذا توقفت رجولته عند حدود الإبهام، فتخاذل عن تسمية أنصاف الرجال، ممن لم يدعوا لأنفسهم الصمود والتصدي، بل انطلقوا في سياستهم الإستراتيجية من تقدير الظروف الدولية والإقليمية، أي من قراءة واقعية بعيدة عن الغوغائية وعن مصادرة كل فرص التنمية والتطور من أجل معركة لم تحصل، بل يبدو أنها لن تحصل، وعن ادعاء باستعادة الحق السليب، بحيث اكتفى حاكم سوريا، أو ما تبقى مما سمي بجبهة الصمود والتصدي، بموقف المتفرج على ذبح المواطن اللبناني، بل على زج مجاهدي حزب الله في أتون النار التي قضت على زهرة شبابه، ممن يفتخر بهم لبنان ويعتبرهم وحزبهم نسيجا أساسيا في المجتمع اللبناني. فليس لأحد أن يسلبنا هذه الفئة المجاهدة، حتى ولو تناقضنا معها في السياسة، فلماذا يريد رجال دمشق الأشاوس أن يقاتلوا إسرائيل بأجساد الشعب اللبناني ؟ لماذا يدفعون بالمقاومة الإسلامية اللبنانية إلى تحرير ثلاثة لبنانين معتقلين في سجون إسرائيل في الوقت الذي يقبع في سجون دمشق أكثر من 600 لبناني، بدون محاكمة بل بدون الإجابة عما إذا كانوا أحياء أو أمواتا ؟ لماذا يرفضون تزويد الأمم المتحدة بوثيقة رسمية تثبت بشكل نهائي لبنانية مزارع شبعا، لا أن يكتفوا بتصريح يسهل التراجع عنه ؟ لماذا يأبون تحديد الحدود بين لبنان وسوريا وضبطها، بل لماذا يرفضون إقامة علاقات دبلوماسية بينهما، تكرس الكيان اللبناني نهائيا ؟

بعد هذه المقدمة نعود إلى ما تفضل به الرئيس السوري في كلمته عن أنصاف الرجال، ففي غياب التسمية والتحديد الواضحين، ألا يحق لكل ملك أو رئيس عربي أن يعتبر أن هذه التهمة، الخارجة عن المألوف، موجهة إليه، من مصر إلى السعودية إلى الأردن إلى المغرب إلى تونس والى سائر الزعماء العرب ؟ أما وقد أبوا الانحطاط إلى هذا الدرك، فتقديرا منهم للظروف المصيرية.

وليسمح لي القارئ الكريم أن أتوقف هنا عند دور المغرب، لعلاقتي ومعرفتي بهذا البلد، الذي نادرا ما وقف المحللون السياسيون على دوره الداعم للبنان وفلسطين وكل العرب. ولعل ذلك يعود إلى أن المغرب ظل محافظا لسنين طويلة على صمته على تقديم هذا الدعم في كل مرحل العدوان، التي تعرضت لها الدول العربية، علما بأنه بعيد عن دول الطوق، حيث اصطلحنا على تسميته في المشرق العربي بالمغرب الأقصى. في الواقع إن الجغرافيا لم تكن يوما سببا حائلا دون أن يبقى هذا البلد ألأمين المغرب الأقرب.

فللتوضيح والتنوير أورد في ما يلي بعضا من مواقف المغرب:

1ـ ما أن بدأ العدوان الإسرائيلي المدمر على لبنان حتى بادر المغرب بإغاثة النازحين بإجلائهم إلى ربوعه، ففتح سفارته في بيروت لاستقبالهم ومن ثم تولى نقلهم إلى مطار دمشق ومنه، بطائرات عسكرية، إلى الرباط، بدون فرق بين مغربي أو لبناني أو إفريقي أو لأية جنسية انتموا، حيث تم هناك إيواؤهم في شقق أو فنادق مع كل ما يحتاجونه من لوازم المعيشة.

2 ـ أرسل المغرب إلى لبنان بعثة طبية لإسعاف جرحى الحرب، فضلا عن بعثة إعلامية غطت أخبار الأحداث الجارية في أحلك الظروف وأكثرها خطرا على المبعوثين.

3 ـ قدم المغرب مساعدات مالية وعينية، تعتبر عظيمة القيمة بالنسبة لإمكانياته المحدودة، التي تضيق عن تلبية متطلبات شعبه، الذي يفوق الثلاثين مليونا، رغم أن المغرب ليس من الدول الصناعية العظمى ولا من دول البترول الفائقة الغنى.

4 ـ طيلة فترة الحرب تصدرت أخبار لبنان كل أجهزة الإعلام المغربية، صحفا وإذاعة وتلفزة، فالمغرب، لا سيما في عهد جلالة الملك محمد السادس، حريص بثبات على حرية الرأي وحقوق الإنسان، حتى لو كانت سهام المعارضة تخترق صدر الحكومة بحق أو بدون حق. أولم يترك للمواطنين حشد تظاهرة شعبية عارمة في الدار البيضاء، ولو أن علامات استفهام وضعها محللون سياسيون محليون حول دوافع بعض موجهي التظاهرة وأهدافهم، التي لم تخف على بسطاء الناس، ممن حصل أن التقيت بهم، كسائقي التاكسي وباعة الحوانيت الصغيرة والمقاهي وغيرهم وغيرهم، فرغم براءتهم وعفويتهم في تأييدهم للبنان، إلا أن ميزان الحكم الدقيق، على ما يجري، لم يغب عن تقديرهم.

أما الخطوة المميزة التي أثرى بها المغرب دعمه للبنان فتتجلى بإقدام جلالة الملك محمد السادس على إلغاء الاحتفالات بعيد العرش. هذه الخطوة، أعتبرها تضحية جليلة قدمها، اعزه الله، متجاوزا على ما أظن الملاحظات السلبية التي كانت تأتيه من بعض الأطراف المقربة، على اعتبار أن الاستعدادات لهذا الاستحقاق كانت قد أنجزت تماما ومظاهرها غطت كل أطراف المملكة مدنا وقرى وشوارع وساحات، واختيار الرباط لإقامة هذه الاحتفالات جاء للمرة الأولى منذ اعتلاء الملك لعرشه المجيد، ورغم إعجاب جميع الناس بحكمة مليكهم، إلا أن الأسف غلب على الكثيرين منهم، لحرمانهم من هذه المناسبة الوطنية، حتى أن أحد سائقي التاكسي راح يحدثني عن أسباب العدوان الإسرائيلي على لبنان وعمن كان وراءه، كما أضاف انه يجد نفسه مغبونا من حرمانه من هذا العيد، مشبها إلغاءه بحرمان ولده من عيد ميلاده الموعود، فبدا بمثابة العقاب على ذنب لم يقترفه، بدون أن تقنعه أية شروحات يبررها له والده الصالح. هذه الخطوة اللائقة، التي أتصور مدى معاناة جلالة الملك وهو يقدم عليها، ليس من اجل نفسه بل تعاطفا مع شعبه الطيب، الذي كان ينتظر هذه المناسبة بفارغ الصبر. في تقييم شخصي لقرار صاحب الجلالة، وجهت خلال مقابلة مع التلفزيون المغربي، أسمى آيات الشكر والتقدير للعاهل المغربي، بعدما مرت عدة أيام استغربت خلالها عدم مبادرة أية مسؤول لبناني، ولا حتى سفير لبنان في الرباط، إلى تسجيل كلمة شكر على موقف جلالة الملك وهي لن تكون على أية حال بمستوى موقفه، ألم يكن قرار الملك إيثارا نابعا من روحانية وإنسانية وأخوة صامتة ؟

على ضوء ما تقدم ومن منطلق وصفنا لمنهجية الملك محمد السادس في تناوله للشؤون السياسية، لا سيما موضوع العدوان على لبنان والسلطة الفلسطينية، وطالما أن جلالته لم يصدر عنه سوى التعاطف والدعم لكلا الشعبين اللبناني والفلسطيني، فانه يقف عند هذه الحدود، بدون التطرق إلى ظروف ما يحصل ومسؤولياته، وذلك لعدم رغبته في إحراج أي طرف عربي ما زال يدعي حرصا على العروبة والإسلام ويعزف على أوتار حساسة لدى العروبيين والمسلمين داخل المغرب أو خارجه. تجاه هذا التحفظ العاقل الحكيم الذي التزم به جلالة الملك، قد أصبح من حقنا أن نخترق أسوار هذا التحفظ، وصولا إلى كامل الحقيقة حول موقفه الاستراتيجي، مما يجري في لبنان وفلسطين والأدلة على ذلك كثيرة أقف فيما يلي على بعضها:

> في جولة الشيخ سعد الحريري، النائب في البرلمان اللبناني ورئيس كتلة المستقبل وحلفائها في صفوف الأكثرية في لبنان، على مراكز القرار المهمة، ومنها المغرب، استقبله صاحب الجلالة في لقاء مطول، بحيث خرج الحريري راضيا وشاكرا بدون التصريح عن تفصيلات ما جرى بينهما من حديث. إنما بدا بديهيا عندما يستقبل زعيم دولة شخصيا كجلالة الملك نائبا ما، فيكون من الطبيعي أن يطلع مسبقا على ما قد سيدلي به الضيف من مواضيع وآراء، يوافق عليها مبدئيا، وألا فسيحيله إلى مسؤول آخر كوزير أو مستشار، وكي نقدر تفهم جلالته للحريري لا ننسى أن هذا الأخير كان سبق أن صرح غداة الحرب بين حزب الله وإسرائيل بأن من تسبب في إدخال لبنان في هذا الدهليز الخطير، لا بد أن يلقى الحساب القريب. ولا ننسى أيضا تصريح رئيس مجلس الوزراء السيد فؤاد السنيورة، في نفس الوقت، إن الحكومة اللبنانية لم تكن على علم بعملية حزب الله وهي بالتالي لا تتبناها. جلالة الملك استقبل الحريري إذن وهو يعرف مسبقا موقفه المستمد من علاقته بوالده الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان صديقا مخلصا ومتفاهما مع المغرب، فمن قصد الشيخ سعد بحساب المسؤول عن تدمير لبنان ؟ ولماذا يحاول هذا المسؤول أن يتغطى بمثل هذه الحرب، لإبعاد الاهتمام عن المحكمة الدولية، التي من المنتظر أن تحدد المسؤول عن اغتيال الشهيد رفيق الحريري، إلى آخر السلسلة الطويلة من الزعماء اللبنانيين الذين لقوا نفس المصير. أظن أن جلالة الملك لو لم يكن متعاطفا مع الشيخ سعد الحريري وحلفائه لما ارتضى استقباله، إذ كيف يرتضي أن يستقبل «عبدا مأمورا» كما سماه رئيس الدولة الشقيقة المجاورة للبنان.

> إذا عدنا إلى الوراء، إلى العهود التي تعاقب عليها ملوك العائلة العلوية الشريفة، المغفور له جلالة الملك محمد الخامس، بطل استقلال المغرب، أفلم تكن زيارته للبنان من أوائل تواصله مع الدول العربية تضامنا معها وتأييدا لقضاياها، أما عن واسع رحمات الله عليه جلالة الملك الحسن الثاني، أفلم يجعل موضوع لبنان، الغارق يومذاك في حرب أهلية فرضت عليه من الخارج، همه الأول ؟ أجل كان لبنان في فكر جلالته الثاقب وقلبه الكبير، فكان وراء اجتماعات القمم العربية، لا سيما قمة مدينة فاس، تلك التي ظهر فيها محاميا بارعا في دفاعه عن لبنان وفلسطين وعن حقهما باتخاذ قراريهما الوطنيين المستقلين، فجهد من أجل وقف الحرب اللبنانية التي خبر خفاياها، حيث انطلقت، من هذه القمة، اللجنة الثلاثية العربية، المكلفة بوقف نزيف الحرب، مؤلفة من المغرب والسعودية والجزائر، حتى توصلت إلى جمع ممثلي الشعب اللبناني في مدينة الطائف، فخرج مؤتمر الطائف بميثاق وطني لبناني، أخرج لبنان من دائرة الحرب القاسية. في كواليس هذا المؤتمر كان المغرب من أكثر المدافعين عن لبنان اقتناعا ومهارة، متحاشيا ردود فعل المتسبب بالحرب.

3 ـ عندما نتساءل عن كبرياء المغرب وعفته وتسامحه، حتى مع من يكن له العداء، نجيب كيف تفهم المغرب وجود مكتب إعلامي لمنظمة البوليساريو في دمشق، وظل ساكتا عن هذا التحدي، بصمت لا يخرجه عن طوره المحق. أما عن تأثير المغرب ودوره اللامحدود في خدمة القضية الفلسطينية في المنديات العالمية المؤثرة، أفلم يتم اختياره رئيسا للجنة القدس، علما بأن المغفور له الرئيس ياسر عرفات، قائد الثورة الفلسطينية وضمير الشعب الفلسطيني، كان وراء هذا الاختيار، في الوقت الذي كان فيه المغرب يتحمل اتهامات جماعة الصمود والتصدي، بصبر فريد كأني به يردد دعاء سيدنا عيسى المسيح، عليه السلام، أغفر لهم يا أبتاه فإنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.

كلمة أخيرة أختم فيها مقالتي هذه، فلا أجد أفضل من التنويه بدور المغرب ليس لدعم لبنان وفلسطين وحسب، بل على الواقعية في فهمه للسياسة بحيث يبدو خير من يعطي الوجه الحقيقي السموح للدين الإسلامي في المنديات الدولية، وبصورة خاصة في الغرب، الذي ما زال ينظر إلى المسلمين والعرب، كخطر على العالم ويتهمهم بأنهم وراء كل عمل إرهابي. ولقد كان جلالة المغفور له الملك الراحل الحسن الثاني يدرك أبعاد الدور الذي يضطلع به المغرب في مجال الدفاع عن الحقوق العربية والإسلامية في الغرب وأهمية هذا الدور في إبراز الوجه الحضاري والإنساني الحقيقي للإسلام، معولا على طبيعة وكينونة المغرب وشعبه، وكان يعبر عن هذا الإدراك بقوله «إن المغرب بلد جذوره في إفريقيا وفروعه في أوروبا». ولعل أن دور المغرب هذا تكرست أهميته العالمية المحترمة منذ اقدامه كأول دولة تعترف باستقلال الولايات المتحدة الأميركية.

وبعد هذا كله, فشعوري كمواطن لبناني هو شعور الامتنان والاجلال لصاحب الجلالة الملك محمد السادس.

* سفير لبناني متقاعد