عالم الإرهاب.. أيديولوجيا أم ثقافة؟

TT

يبدو أن كلمة التفجير باتت رائجة هذه الأيام، من الجزائر إلى الرياض والخبر وجدة ومدريد مروراً ببغداد ولندن وشرم الشيخ، وهو مصطلح تضيفه القاعدة الى عائلتها اللغوية من خطف وقتل واحتجاز رهائن وترويع الآمنين، فقتل الأبرياء والمذابح الجماعية يعني في ما يعني بصمة دامغة تميز القائم بالسلوك عن غيره ممن يسلكون نهج العنف ويستلذون برؤية الدم الداكن البريء.

على أن السلوك ما هو إلا تصرف مادي له مرجعية وأرضية فكرية ينطلق منها. هذا الفكر هو الذي يسكب طبيعة وأبعاد هذا السلوك، فنراه مجسداً على الأرض سواء كان عنيفاً أم إنسانياً استناداً إلى مضامين ذلك الفكر أو تلك الأرضية.

وليس من جديد القول بأن ايديولوجية القاعدة اخترقت مجتمعنا المحافظ والمسالم باستخدام «توظيف النص الديني» وطرح الأحكام الجاهزية والجزافية، فاستغلت ذلك المناخ الديني وتلك البيئة المحافظة لزرع افكارها ورؤاها في مجتمع يحمل الكثير من الاحترام والتقديس لكل ما هو ديني، وهنا تكمن المعضلة فتجد التعاطف من بعض الفئات، وربما التردد والصمت من البعض الآخر، في مقاومة تلك العقليات المتلبسة بشعار الدين، والمتخيلة لصورة ماضوية مسرفة في الانتقائية تريد فرضها على المجتمع والدولة. كما انها في ذات الوقت استطاعت بنجاح ان تشكل خلايا نائمة في العديد من دول العالم باختراق فئة الشباب المتعاطف معها من اجل تنفيذ مشروعها السياسي الذي يبدأ بالعنف كأسلوب ميداني لينتهي بالاستيلاء على السلطة وفق تصورها.

ولعل من يفكك خطابها، يجد انه يرتكز على مفاهيم التبرير والإدانة والاقصاء والالغاء، ورفض الحداثة والتوجس من الجديد، والخوف من التغيير بدعوى المحافظة على القديم والتراث والقيم بأساليب تنظيرية جامدة فضلاً عن اعادة الخلافة الراشدة، وهي رؤية تفتقد إلى المعالجة الموضوعية والنقد العقلاني وتتنافى مع الواقع ومنطق الامور، ورغم ان هذه الفئة لا تعبر عن السلوك السائد للمجتمع، إلا انها تبقى جزءاً من تركيبته الاجتماعية، ولذلك فتعاطفها مع تلك الايديولوجية يبقى له تأثير على النسيج المجتمعي، وان ظل محدوداً ولكن خطورته تكمن في استمرارية نموه وتشعبه ما لم يواجه بحلول أمنية وعلمية لإيقاف تسارع وتيرته، وبالتالي تجفيف منابعه الفكرية والمادية، واقتلاعها من جذورها. فالمسألة لم تعد طرح شعارات دينية، بل لها اهداف سياسية لم تعد تنطلي على احد.

ولعل خطورة الايديولوجيا «الدينية الراديكالية» حين تحليلها معرفياً، تجد انها تنطلق من ارضية «رفض الآخر» و«سلوك الرفض» مستندة الى ذات انغلاقية، لا تحلم إلا بصورة «الماضي المختزل في ذهنها» ولا يمكن لها التكيف أو التعايش مع ما حولها بل تنزع الى التقوقع والجمود والهروب إلى الأمام، رغم ان واقع الحال من معطيات ومتغيرات ترى ضرورة التفاعل والاندماج والتداخل والتعايش في عالم بات الى التلاقح هو أقرب، مما يحتم عليك المشاركة والمنافسة وإلا كنت خارج التاريخ. وما دام الأمر كذلك، فليس مستغرباً ان تكبح الايديولوجيا الثقافة بل وتذبحها «وفق مصطلحات القاعدة» لأنهما نقيضان، فالايديولوجيا تنزع للرؤية الاحادية المرتهنة لقاعدتي «اما، أو» و«مع أو ضد» ، ومكبلة بكل القيود التي تكرس مفاهيم المطلق والتابو والإدانة، في حين ان الثقافة المستنيرة تكون متجردة في احكامها وتميل إلى المعالجة المنهجية العلمية والشجاعة الأدبية في الحكم والتعليل والتحليل، بمعنى ان المثقف المحايد يستخدم القراءة العقلية في الحكم على الأشياء، أي قبول الواقع «كما هو» وليس كما نريد له «ان يكون».

إذن: الموضوعية والعقلانية والحياد معان لا تستقيم مع توجهات ومفهوم الايديولوجيا التي تجعل من معتنقها واقفاً معها ومبرراً مواقفها على الدوام بغض النظر عن مشروعيته أو صحته، ولذلك فهي لا تعترف أو لا يهمها الموقف القيمي، بقدر ما ان مرادها يكمن في تحقيق اهدافها «اياً كانت» من دون أن تعير اهتماماً للمعطيات الآنية والظروف المحيطة، وهذا ما يجعل نتائجها وخيمة وقد يعرضها للسقوط والانهيار مثل ما حدث مع الاتحاد السوفياتي وطالبان في افغانستان.

ولذلك فإن المسلسل العنفي الذي اشاهده على كوكبنا لا يلبث ان يدفعني إلى تساؤل حارق وأليم في آن.. هل من نهاية لهذا السيناريو المريع؟!!