تأملات في «مرض الاستكراس»

TT

هل يعقل أن يتواجد رئيس الحكومة البريطانية ، توني بلير، ورئيس الجمهورية اللبنانية ، أميل لحود ، على ارض واحدة يوم الاثنين الماضي... ولا يلتقيان وجها لوجه؟

حبذا لو اجتمعا ولو لربع ساعة من الزمن لأدركا أن ما يجمعهما في السلوك السياسي أعمق بكثير مما يفرقهما، وان واقعهما الراهن يشدهما الى التعاون لا التنافر... فكلاهما نموذج حيّ لحاكم تجاوز في ولايته ما يعرف في «سوبر ماركتات» الغرب «بمهلة البيع» (Sell by Date)... ولا يزال متشبثا بكرسيه المهزوز.

من تحصيل الحاصل ان فقدان أي مسؤول لحاسة التأقلم مع واقعه السياسي والشعبي المتغير واصراره على التشبث بكرسي الحكم بأي ثمن كان حالة مرضية ربما كان الزعيم اللبناني الراحل، كمال جنبلاط، السباق في تسميتها «بمرض الاستكراس».

واللافت في عوارض هذا المرض ان الحالات الأكثر حدة بين المصابين به تسجل في دول الأنظمة الديمقراطية.. ربما لشعور الحكام «المنتخبين» أن انظمتهم تجعلهم «دكتاتوريين موقتين» لا حصانة لهم سوى الأكثرية البرلمانية لحزبهم الحاكم ـ الموقتة بطبيعة النظام ـ أو بمدة ولايتهم الدستورية ـ الموقتة هي ايضا ـ ومدركون، في الوقت نفسه، ان مجدهم السياسي مرهون بمهلة زمنية تدق، كالساعة، كل ثانية وكل دقيقة.

وحين تصدف ان يجتمع على أرض واحدة مسؤولان مثل توني بلير واميل لحود تميد كرسي الحكم من تحتمها، فأضعف الايمان أن يلتقيا ـ على الأقل لاستخلاص العبر من عوارض حالتهما المرضية الواحدة:

فكلاهما صامد في الحكم دون ممارسة فعلية للسلطة.

وكلاهما يمر بمرحلة «كسب وقت» بانتظار ما سيكون على ساحة الحرب على «الارهاب» ـ بتسمياته المتنوعة في الشرق والغرب.

وكلاهما يترافق استمراره في الحكم مع تآكل رصيده الشعبي.

وكلاهما مدين في تآكل شعبيته الى ولائه الأعمى لرئيس أجنبي ـ جورج بوش بالنسبة لتوني بلير وبشار الاسد بالنسبة لاميل لحود.

وكلاهما تواجه خلافته نزاعات تتجاوز شخص الخلف الى التوجه السياسي لبلده .

وأخيرا، لا آخرا، كلاهما يتطلع الى تحقيق انجاز ما يبرر به تمسكه بالفترة المستعارة من حكمه ـ بلير بتحقيق اختراق على جبهة النزاع الفلسطيني الاسرائيلي (وعبرها الحرب الاميركية ـ البريطانية على «الارهاب») ولحود بتجيير صمود حزب الله العسكري في الجنوب لاستراتيجيته السياسية الوطنية (وعبرها الى ما تبقى من النفوذ السوري في لبنان).

قد يكون الفارق الاساس بين رئاسة تقطيع الوقت في لبنان ونظيرتها في بريطانيا، ان الرئاسة اللبنانية تعرف الموعد النهائي لرحيلها عن الكرسي (نوفمبر/ تشرين الثاني 2007) فيما الرئاسة البريطانية تراوغ في تحديد هذا الموعد وتكتفي بحصره في بحر سنة فقط ... متجاهلة مقولة بريطانية ـ ذهبت مثلا ـ لرئيس حكومة سابق من ان «الأسبوع الواحد هو زمن طويل في عالم السياسة».

ربما تنطوي هذه المقولة البريطانية على حكمة أكثر مما تعبر عن واقع، ما قد يبرر دعوة ديمقراطيات العالم إلى إعادة النظر في فترة الولاية الرئاسية أو الحزبية التي تحددها أنظمتها لحكامها وذلك لجهة الحرص على الا تتجاوز الاربع سنوات كحد أقصى، أي مدة الولاية التي يمنحها الدستور الاميركي لأي رئيس قبل إخضاعه، مجددا، لامتحان انتخابي ثان.

من هذا المنظور تبدو ولاية توني بلير ـ التي ستتجاوز السنوات العشر في حال نفذ وعده بالرحيل خلال سنة ـ أطول من ان يبررها أي نظام ديمقراطي، فالديمقراطية ، في نهاية المطاف ، هي فن تغيير الحكام «غب الطلب».

وفي هذا السياق ايضا تبدو ولاية الرئيس اللبناني، المحددة دستوريا بست سنوات، «أطول» من الضروري في عصر يسابق فيه الزمن الانسان نفسه ... فكيف إذا استمرت ، بحكم التمديد، تسع سنوات كاملة؟

باختصار قد يكون بلير ولحود ضحيتي «طول» الولاية بقدر ما هما ضحيتا سياسات معينة. ولكن الفارق الكبير بين بلير ولحود يبقى في ان المسؤول البريطاني كان يوجه سياسة بلاده وفق رؤية معينة لدور المملكة المتحدة على الساحتين الاوروبية والدولية، فيما لا يزال لحود، بعد ولايته الطويلة، يعد بتنفيذ «خطاب القسم» رغم اقتراب السنة الثامنة على ذكراه.

في هذا السياق قد تكون معالجة ظاهرة فقدان المناعة المكتسبة حيال داء «الاستكراس» بعملية جراحية دستورية تقصر عهد ولايات الحكام المنتخبين الى حده الادنى ـ 4 سنوات كما في الولايات المتحدة ـ عملية «انقاذ» لبعض الحكام ليس فقط من داء الاستكراس بل من مشكلة الانكشاف كليا أمام الرأي العام .