سوريا بين الاتجاه المعاكس.. والحرب الباردة الجديدة؟

TT

الطريقة التي تبدو بها الأمور الآن، تشير الى ان لبنان قد يكون في بداية طريق طويل باتجاه ما كان دائما يريد ان يكون: موقع وسط يمكن من خلاله ان يحتفظ بشخصيته العربية، ولكن يصوغ أيضا صلاته مع الغرب. وذلك يعني بالمقابل، ان كل الأنظار ستتجه الى سوريا باعتبارها البلد الثاني في المنطقة الذي وصل الى منعطف طريق.

فالنظرة الأولى توضح ان سوريا قررت الاتجاه الذي تسير فيه. وكان خطاب الرئيس بشار الأسد أمام الصحافيين السوريين الشهر الماضي يبدو مثل اجندة استراتيجية تهدف الى اقامة «جبهة رفض» جديدة، تسمى هذه المرة «جبهة التحدي»، تحت زعامة ايرانية. وبعد انسحاب جيشه من لبنان العام الماضي، كانت امام الرئيس بشار الأسد فرصة تغيير الموقف، أي ابعاد نفسه عن ايران والانضمام الى التيار العربي الناشيء واستخدام التحقيق الذي تجريه الأمم المتحدة في اغتيال رفيق الحريري، كفرصة لتطهير نظامه من المتشددين.

ولم يستغل الأسد تلك الفرصة، وإنما مضى في الاتجاه المعاكس. وفي يونيو الماضي أرسل وزير دفاعه الى طهران ليوقع اتفاقية عسكرية مع الجمهورية الاسلامية. ونعرف الآن ان التوقيت لم يكن مصادفة. فقد بدأت الحرب التي اثارها حزب الله بعد شهر من ذلك. كما أن الرئيس الأسد أوقف تحقيق الأمم المتحدة وبالتالي شجع العناصر المتطرفة في نظامه.

وفي الظروف الحالية ليس هناك احتمال كبير في أن تغير سوريا اتجاهها لمساعدة الولايات المتحدة على فرض رؤيتها بشأن الشرق الأوسط.

ويتحدث الزعماء السوريون بمرارة عن اخفاق ادارة بوش المزعوم في توفير حوافز لهم لتغيير الاتجاه. فقد كانوا يأملون بدور في اعادة صياغة العراق، ولكنهم لم يتلقوا شيئا. وتمنوا أن يحتفظوا بوجود كبير في لبنان ولكنهم اكتشفوا ان واشنطن سعت الى اقصائهم بالكامل. والأدهى من ذلك ان واشنطن بدت ميالة نحو سياسة «تغيير النظام» تجاه دمشق، كما اشار الى ذلك اقرار قانون مسؤولية سوريا من جانب الكونغرس.

وكانت هناك دلائل أخرى على أن واشنطن تريد تغيير النظام في دمشق. ففي يونيو الماضي حضر مسؤولون من وزارة الخارجية سلسلة من الاجتماعات عقدت في بروكسل ولندن، من جانب زعماء المعارضة السورية في المنفى، كمراقبين، ولكنهم، في الواقع، كانوا مشاركين نشطين. واتفق التحالف الناشيء لجماعات المعارضة السورية على فترة انتقالية تستمر ستة اشهر، يستبدل خلالها الدستور المفروض عام 1973، بذلك الذي أقر عام 1950. وتعد حكومة مؤقتة لاجراء انتخابات، وتطلق سراح السجناء السياسيين وتلغي المحاكم الخاصة وترفع حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 1970.

وشجعت الفكرة المتنامية من انه قد يجري استهداف سوريا لتغيير نظامها عبر جماعات المعارضة داخل البلاد أيضا. وعرض الأكراد عضلاتهم في عدد من التظاهرات، بينما وجه المثقفون العلمانيون نداءات تنتقد النظام. وفي الشهر الماضي عرف الناس أنباء الاضراب عن الطعام الذي قام به 14 من أبرز السجناء السياسيين في دمشق بفضل التوزيع السري الواسع للخبر في مختلف أنحاء البلاد.

ويجد مزيد من الناس الشجاعة على عقد اجتماعات مناهضة للنظام في بيوتهم وفي الجوامع و«الزوايا»، حيث يلتقي الصوفيون، وراح يتبدد مزيد من الظلام المخيم منذ اواسط الستينات. ومنذ عام 1960 أقامت الأنظمة المتعاقبة التي يهيمن عليها العسكر نظاما شبيها ببيوت دمشق التقليدية. وهي بيوت ذات جدران عالية تعزل الساكنين عن الجيران المحيطين. وفي هذه البيوت تنفتح كل النوافذ على فناء داخلي على نحو لا يوفر للساكنين اطلالة على الخارج. ولا غرابة في ان المستوى المتصاعد من نشاط المعارضين يفتن السوريين ويخيفهم.

وسوريا، شأن جارها العراق، موزاييك من المكونات الاثنية والدينية. والنظام الحالي يسيطر عليه العلويون، وهم طائفة شيعية تشكل حوالي 11 في المائة من السكان، ولكنها ظلت مهيمنة على الجيش وقوات الأمنذ خمسينات القرن الماضي. ويعتقد العرب السنة، الذين يشكلون 60 في المائة من السكان، ان بوسعهم تشكيل تحالف مع المسيحيين والأكراد والتركمان وأقليات أخرى لتحدي امساك العلويين بالسلطة.

ولسنوات ظل الأسد مترددا بين اقرار الاصلاح وممارسة القمع مجددا. وفي البداية كان قد اقنع البعض بأنه يمكن ان يختار الاصلاح، وكان بينهم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي وجه دعوة للأسد وزوجته البريطانية المولد لزيارة رسمية الى لندن واللقاء مع الملكة.

غير ان بلير مقتنع الآن بأن الأسد لم يعد شريكا للغرب في اعادة صياغة الشرق الأوسط. ويشاركه في هذا الرأي الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي قام بحملة لجلب قتلة الحريري امام العدالة. وفي يوليو الماضي تجاوز شيراك الأعراف الدبلوماسية واصفا الأسد علنا بأنه «عقبة امام السلام والاستقرار» في المنطقة.

فلماذا يمارس الرئيس الأسد مثل هذه المقامرة؟

ويبدو انه وافق على استراتيجية الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، القاضية «بانتظار رحيل بوش»، التي نوقشت عندما التقى الاثنان في دمشق في يناير الماضي. وتعتمد السياسة الايرانية الحالية على افتراض انه ما أن يغادر بوش السلطة فإن الولايات المتحدة ستعود الى سياستها التقليدية بالتكيف مع الواقع الراهن بدلا من السعي الى تغييره.

وقد القت ايران بثقلها وراء الأسد مزودة اياه بالنفط الرخيص، والهبات المالية التي بلغت قيمتها 400 مليون دولار، وطائفة من الأسلحة بينها الصواريخ، ومجموعة من الحرس الثوري الاسلامي الذين يمكن، اذا ما دعت الضرورة، أن يتصرفوا كحرس امبراطوري.

كما تتلقى استراتيجية الأسد دعما من روسيا، التي تسعى الى امتيازات لبحريتها في ميناء طرطوس من اجل استبدال القاعدة المستأجرة من أوكرانيا في سيباستوبول على البحر الأسود. وذلك العقد سينتهي عام 2017، وبعد ذلك يمكن أن تتحول هذه القاعدة الى قاعدة للناتو. ومن باب المصادفة ان طرطوس تعتبر معقلا من معاقل العلويين. وقال الرئيس أحمدي نجاد ان «العدوان الاسرائيلي ضد حزب الله جزء من استراتيجية أوسع. وأولئك الذين شنوا العدوان يعتقدون انه اذا ما سقط حزب الله فإن قوى اخرى ستسقط، وبينها سوريا».

ويشارك الزعماء السوريون في هذا التحليل. وهذا هو السبب الذي يجعلهم لا يفعلون شيئا «لتقييد» حزب الله، كما طلب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان. ان نسخة جديدة من الحرب الباردة تحدث في الشرق الأوسط. والسؤال هو: كم ستستغرق وما هو حجم الأضرار التي يمكن أن تلحقها بكل المعنيين؟