إذا دخلت فلا خروج حتى الموت!

TT

كل من يعمل في أجهزة الأمن القومي، لا بد أن يقسم أنه لن يبعد عن هذه الوظيفة حتى لو أحيل إلى المعاش.. أو بعبارة أخرى، إذا دخلها لن يخرج منها حتى الموت. لأنها واجب مقدس! وهناك قسم آخر ليس مكتوباً، وهو دخول المستشفيات، فمن دخلها مرة، فلا بد أن يعود.. سواء كان زائراً لمريض أو كان هو المريض.. أقول قولي هذا، وأذكر ما حدث لى في لندن وفي باريس. جئت زائراً وخرجت مريضاً وعدت مريضا.. مرتين دخلت ولم أعد. فعندما كنت في اليابان وجدت مستشفى جميلاً أنيقاً نظيفاً يمتلئ بالورود وكأنها شفاه تقبل من يدخل ومن يخرج.. أما انحناء الفتيات اليابانيات، فله مذاق آخر في المستشفى. ومن دون أن أسأل نفسي ولماذا أدخل هذا المستشفى. دخلت وجلست. ورأيت الناس يدخلون وتنحني الفتيات. وذهبت إليهن وقلت: أريد أن أرى الطبيب.. وكان الابتسام والانحناء والسكوت عن الكلام علامة الرضا والقبول. وعدت إلى مكاني مودعاً بمثل ما استقبلت به: رقة وابتسامات وانحناءات وتحيات.. ومضى من الوقت الكثير.. ولم تدعني واحدة. فذهبت أسأل فقالوا: نحن في انتظار المدام..

ـ مدام؟ مدام من؟! قلن: المدام بتاعتك..

ـ ولكني لست متزوجاً..

ـ آه.. ولكنها مستشفى ولادة! ولم أعد.

ومرة أخرى قابلت السفير المصري في واشنطن، وقلت عندي كل الأمراض أو أعراضها.. أو أني موسوس أن يكون عندي أمراض. وأريد أن أدخل مستشفى البحرية الأمريكية، كما فعلت السيدة أم كلثوم صديقتي وبلدياتي!! واندهش السفير. ولكن قال: أنت محظوظ، فعندنا اليوم مفاوضات عسكرية، وسوف أعرض رغبتك هذه. وعرضها ووافق الأمريكان. ولم أندم في حياتي على حماقة مثل هذه المرة.. أدخلوني المستشفى بين صفين من الزنوج، لا أحد يتكلم، وإنما الأيدي تشير إلى أماكن يجب أن أذهب إليها، وأقدم جواز السفر، وأقول لهم من أنا ولماذا هنا، وما شكواى. وقلت وكتبت وأشارت أذرع غليظة إلى أماكن أخرى، ذهبت وخلعت ملابسي. وأحاول من يومها أن أنسى ما حدث لي منذ 46 عاماً!!

أجلسوني على مقعد له عجلات وكانوا يدفعونني يمينا وشمالا، وأنام من الإرهاق وأرى فيما يرى النائم أنني في جهنم، وأن الحكم نهائي، فلا دعوات تشفع ولا صلوات وخير لي ان أسكت، فسكت ثلاثة ايام حسوما: أدخل وأخرج وتندب الحقن في ذراعي وفي ساقي ويخرج لساني من تلقاء نفسه، كلما رأيت أحداً وقد دخل الترمومتر مرة في لساني ومرة في أذني.

وكما دخلت مندفعاً، خرجت مندفعاً إلى خارج المستشفى كأنني كرة ثكاثرت حولها الأقدام، لكي تهز بها شبكة مجهولة في مكان بعيد.. ووقفت أمام المستشفى أؤكد لنفسي أن الذي لقيته من أجل أن أكتب مقالاً، حماقة أستحق عليها المزيد من العقاب!