تجاهل الصحافة العربية لأبي البرلمانات

TT

البرلمان البريطاني في إجازته الصيفية، ولكن استجواب لجنة العلاقات الخارجية (من جميع الأحزاب) الأربعاء الماضي لوزير الدولة للشؤون الخارجية كيم هاويل جاء في اولوية اهتمام الصحفيين هذا الأسبوع، بعد متابعة صراع الزعامة داخل حزب العمال الحاكم.

ازدحمت الجلسة بالصحفيين والجمهور، الذي سُمِح له بحضور الجلسة، ابتداء من العاشرة والنصف، وقت استجواب الوزير هاويل. فالتقاليد البرلمانية وفق حقوق دستورية تعود لقرون تعطي اي شخص (دون حتى اشتراط ان يكون بريطاني الجنسية)، ـ من العموم ـ حق حضور الجلسات البرلمانية او جلسات استجواب اللجان لأي سياسي منتخب. فالاسم مجلس او دار العموم House of Common يعني دار عموم الشعب. الحق لا يمتد للوردات (الشيوخ) House of Lords لانهم برتبة قضاة وفي مستوى فوق العموم غير منتخبين

كـ«حكماء الأمة» والضابط لانفلات الساسة المنتخبين ولهثم وراء الأصوات بغوغائية وترويج سياسات قد تضر بالأمة. اما استجواب موظفي الدولة او موظفي التاج، غير المنتخبين، فإما باستدعاء اللجان، لتفسير سياسات وزراء او بأمر قضائي.

ومن هنا، فالديمقراطية البريطانية من اكمل النظم الدستورية التمثيلية نضجا في فصلها بين مؤسسات الأمة. الفصل بين الدولة، ورأسها الملكة، والحكومة المنتخبة كجهاز تنفيذي؛ والقضاء المستقل؛ وطبعا السلطة الرابعة ـ التي اكتسبت حق الحضور في البرلمان منذ ثلاثة قرون، في قسم خاص بنا يعرف بـ«منصة الصحافة» Press Gallery وكانت اولا المنصة التي تعلو مقعد رئيس مجلس العموم Speaker of the House المخصصة للصحفيين، لكنها في القرن الماضي توسعت لتشمل جناحا كاملا في قصر وستمنيستر؛ وفيها مكاتب مائتين ونيف من الصحفيين البرلمانيين / السياسيين؛ ولكل منا بطاقة ممغنطة للمرور عبر المداخل، ويحق لنا التجول في اروقة البرلمان والاختلاط مع النواب والوزراء ومناقشاتهم.

ولذا ازدحمت جلسة استجواب الوزير هاويل بمراسلي «فليت ستريت»، والصحف المحلية من الدوائر التي يمثلها الوزير، وأعضاء اللجنة،

ومن مقاطعات يخدم ابناؤها في الجيش البريطاني والويته بنظام المقاطعات Regiments حيث ينتمي جنود الكتيبة للمقاطعة، لأن القراء يهمهم استجواب الوزير هاويل حول مهام القوات في افغانستان والعراق.

لكني، ويا للغرابة، لم ألمَحْ بين الحضور مراسلا واحدا من الصحافة العربية، سواء اللندنية، او من جيش مراسلي الصحف والفضائيات العربية في لندن.

ولا اعتقد ان السبب هو توقيت الجلسة 10.30 صباح الأربعاء، والذي اعلن عنه قبل شهر، وازدحمت بالجمهور العادي، فقد تصادف ان المؤتمر الصحفي المشترك لرئيس الوزراء توني بلير وضيفه رئيس وزراء الصين الشعبية في داوننغ ستريت، بدأ في الثانية عشرة ظهرا، وداوننغ ستريت على بعد خمس دقائق عن مبنى البرلمان ـ بعض المراسلين غادروا الجلسة الساعة 11:40 الى داوننغ ستريت.

ولا علم لي بحرارة اهتمام صحفيين عرب بالصين الشعبية، خاصة ان فلسطين دائما كانت بؤرة اهتمامهم، الى جانب لبنان والعراق، والثلاثة كانوا محور استجواب الوزير هاويل، مع ست دقائق خصصت لأفغانستان.

المحزن في الأمر ان ام البرلمانات في وستمنيستر، هي محل تجاهل تام من الصحافة العربية وكأنه غير موجود إلا كبانوراما خلفية يظهر امامها معلق عبر القمر الصناعي؛ دليل وجوده في لندن، في فقرة لا علاقة لها بالنشاط البرلماني في مجلس العموم؛ او خلفية يقف امامها مراسل الفضائية في تقرير من لندن. هناك استثناءات يلتقي فيها مراسلون عرب بنواب برلمانيين، خارج البرلمان، دائما من اللوبي العربي او اصدقاء فلسطين، او منتقدي التقارب البريطاني ـ الأمريكي.

ومع ذلك، أجدني مستعدا لتلقي حقائق تصحيح ما اذا كنت مخطئا في مراقبتي لنشاط المراسلين، فلا اذكر، إلا باستثناءات نادرة، ومنقولة عن الوكالات، ان مراسلا عربيا وصحيفة عربية تابعت، في تقارير اخبارية، جلسة الاستجواب الاسبوعية لرئيس الوزراء في مجلس العموم، او مناقشات برلمانية حول الشرق الاوسط، او احصائية تحليلية لمداخلات النواب المسلمين مثلا. وكأن طلاء البرلمان بمجلسيه ولجانه، هو طلاء خفي لا تلمحه العين التي تقرأ اللغة العربية وتشاهد الفضائيات العربية.

ومما يؤكد هذا الاستخلاص المحزن هو تغطية الصحافة والفضائيات العربية للنزاع الذي مزق حزب العمال الحاكم قبل اسبوعين عندما بدأ نواب، اغلبهم من اصدقاء وحلفاء وزير المالية غوردون براون، محاولة «انقلاب» داخلي بدعوة رئيس الوزراء بلير لمغادرة داوننغ ستريت وتحديد جدول زمني لتسليم المفاتيح لبراون.

عكست التغطية جهل غالبية المراسلين والمحررين العرب، ومعدي البرامج، ومعلقين عرب، بابسط اولويات العمل البرلماني، والثقافة الديموقراطية البرلمانية. والجهل شبه التام بطريقة العمل الحزبي ونشاط الأحزاب في نظام برلماني ديمقراطي كبريطانيا.

ولتغطية هذا الجهل، اختصر معدو البرامج، والمعلقون العرب، وبعضهم مقيم في بريطانيا، الطريق بايهام انفسهم بان متاعب بلير مصدرها غضب «الشارع البريطاني» بسبب «تحيزه لإسرائيل» وعدم دعوته مبكرا لوقف اطلاق النار اثناء حرب اسرائيل وحزب الله. والحقيقة الثابتة ـ ويمكن العودة للأرشيفات للتحقق ـ ان التمرد على بلير لا علاقة له بما سماه العرب بأحاسيس «رجل الشارع» في بريطانيا ـ رغم انهم لم يقيسوها في استطلاع للرأي اصلا ـ. فالصراع داخلي بين نواب العمال، وليس على المستوى القومي حيث انتخب اغلبية البريطانيين بلير مرتين رغم غضب يسار الحزب من سياسته الخارجية.

كما ان الرسالة المفتوحة الموقعة من أكثر من 30 نائبا عماليا، تطالب بلير بالذهاب، لم تذكر السياسة الخارجية أو تشير الى لبنان والشرق الأوسط.

الواضح ان هؤلاء المعلقين العرب، لم يدققوا في تفاصيل الأخبار، ولا نص خطاب النواب المنشور في جميع الصحف، او يحاوروا النواب الغاضبين على بلير، كما يفعل معلق مثلي، وبشكل يومي بحكم اختلاطي بهؤلاء النواب.

كما يعكس ذلك عدم اكتراثهم بقراءة او متابعة أية اخبار خلاف دائرة اهتمامه الضيقة، رغم ان ما يدور في قاعات وستمنيستر يؤثر بشكل مباشر على حياتهم، وغير مباشرة على بلدانهم الأصلية.

ورغم ترديد الصحافة العربية، ما ينشر في صحف اليسار البريطانية من وجود خلاف في التوجه السياسي بين داوننغ ستريت، ووزارة الخارجية، فالملاحظ غياب الصحفيين العرب من نشاط يلقي الضوء على هذا «الخلاف» وهو اللقاء اليومي مع السكرتير الصحفي لرئيس الوزراء، حوالي 15 دقيقة، تسع مرات في الاسبوع، اربع منها مفتوحة للمراسلين من غير حاملي البطاقة الممغنطة، ورغم ذلك نادرا ما يحضرها الصحفيون العرب.

فهل تجاهل النشاط البرلماني، هو مجرد «كسل» من الصحفيين العرب؟ أم هو انعكاس تراجيدي لغياب الثقافة البرلمانية عن ثقافة غرف الأخبار العربية اصلا؟

والفرضية الأخيرة يمكن ملاحظتها في المقابلات المنشورة والمتلفزة مع الساسة والوزراء العرب، حيث يروج المسؤول ما يحلو له من بروباغاندا وبضاعة سياسية حزبية او آيديولوجية، من دون ان تكون لدى المذيع او الصحفي الجرأة على تحديه في اثبات هذه المعلومات، او يكون قد استعد بالبحث والأرقام لمقاطعته وتحديه؛ والسبب ان هؤلاء الصحفيين لم يختبروا ثقافة الاستجواب البرلماني، للمسؤول على انه «بشر» منتخب يجب تحدي ما يروجه.

وستكون المأساة مزدوجة، إذا لم يتدارك الصحفيون العرب في لندن هذا التقصير، ويوظفوا وجودهم هنا لاستكشاف ومتابعة اعرق النشاطات البرلمانية في الأقل لترويج الثقافة البرلمانية بين القراء والمتفرجين العرب.