مرة أخرى.. معركة العلم العراقي

TT

ومرة أخرى احتدمت معركة العلم العراقي، ولكن هذه المرة بدرجة حرارة اكبر بلغ حد اصطفاف كل القوى السنية من هيئة علماء المسلمين وجبهة التوافق وجبهة الحوار الوطني، اضافة الى رئيس الوزراء نوري المالكي الذي اسرع مثل الاخرين فأصدر قراراً يقضي بأن العلم العراقي الحالي هو العلم المعمول به في كافة انحاء العراق، لحين موافقة مجلس النواب على تغييره. وهذه الزوبعة هبت اثر قرار رئيس اقليم كُردستان بإنزال العلم العراقي الحالي ورفع علم كُردستان فقط في الاقليم. وكانت ضجة مشابهة أثيرت في ابريل (نيسان) عام 2004 حين جرى اقتراح علم جديد للعراق، يعكس واقع المجتمع العراقي اكثر بكثير من العلم الحالي، ولكن لم يتم اقراره في حينه. ولكي لا نذهب بعيداً من المهم طرح بعض الحقائق التي يبدو انها خافية على اغلب القوى العربية، سواء منها المنخرطة في العملية السياسية في العراق او المناهضة لها:

1 ـ ان قرار السيد رئيس اقليم كُردستان مسعود البارزاني حول العلم العراقي ليس «مفاجئاً» كما سمته بعض القوى العربية السنية، فالنقاش والتداول حول هذا الموضوع بدآ منذ ايام مجلس الحكم الانتقالي، ولكن بما ان مجمل العملية السياسية بطيئة ومتعثرة ومرهونة بالازمة الامنية المستعصية على الحل لغاية الآن، فان محور العلم العراقي اصبح منسياً، بل ان بعض القوى اراد عمداً تناسي هذا الشأن المهم لدى سكان كُردستان العراق، ومن هنا جاء قرار رئيس الاقليم لاعادة الموضوع طرياً الى الاذهان، ولدرء أي محاولة للبعض لوأد هذا الأمر بدعوى وجود أولويات اخرى واستحقاقات اكثر أهمية من الشأن الكُردي القابل لديهم للتأجيل.. ولكن السؤال هل يجوز بعد 85 عاماً على تأسيس الدولة العراقية، ان تبقى الملفات الكُردية مؤجلة الى ما لا نهاية.

2 ـ ان كل المؤشرات دلت خلال المرحلة الماضية ان لا احد غير الكُرد متحمس لتغيير العلم العراقي الحالي، رغم انه تغير منذ عام 1921 أربع مرات، ولا موجب لتقديس الشكل الحالي للعلم المرتبط بذكريات مريرة للغاية في ذاكرة الشعب الكُردي.. ففي ظل هذا العلم ارتكب نظام صدام حسين في اطار حملته «الايمانية» المزعومة افظع جرائم العصر بحق الشعب الكُردي وهي المعنونة بقصف حلبجة بالسلاح الكيماوي المدمر والتبعيث والترحيل والتعريب وسياسة الارض المحروقة والقتل الجماعي وجريمة «الأنفال» التي حصدت ارواح 182 ألف انسان بريء ودمرت 4500 منزل عن بكرة ابيها. ولذلك فعودة هذا العلم ليرفرف مجدداً في سماء كُردستان يعني اصرار بعض النخب العربية، على تذكير الشعب الكُردي بالماضي المؤلم، بل وربما تهديده بعودة الماضي مستقبلاً وهو أمر بات في جعبة المستحيل.

3 ـ إن العلم والشعار والنشيد الوطني وما الى ذلك من الرموز والدلالات السيادية ليست اداة لتغليب فئة على اخرى او قومية على قومية ثانية، أو تأكيدا وتثبيتاً لمفاخر حزب معين، ولا هي رموز مستقاة من تاريخ تكوين واحد من ابناء الشعب العراقي، بقدر ما هي امور جامعة يفترض بها انها تعكس حقيقة التلاوين الاثنية والدينية والتاريخية لشعب ما. ولهذا فإن العلم العراقي لا بد ان يعكس الواقع العراقي، كما هو لا كما يحب ويهوى البعض، فالعلم لا يمكن ان يكون حكراً لأحد.

4 ـ ان هيئة علماء المسلمين كان عليها ان تدرك ان الشعب الكُردي حين يرفض العلم العراقي فهو لا يرفضه لذاته، بل يرفض شكله الحالي، فالشكل وليس الموضوع او الجوهر هو منشأ النزاع ونقطة الاختلاف. اما وجود عبارة «الله اكبر» في العلم فهي كلمة حق اراد بها صدام حسين دائما الباطل، ثم انه لا أحد يرفض ان تبقى هذه العبارة الجليلة والمقدسة في العلم الذي ينبغي ان يقر كعلم جديد للعراق.

ويبدو ان هيئة علماء المسلمين وآخرين ما زالوا مقيدين بنفس مصطلحات وعبارات النظام السابق، حين يكررون جملة «شمالنا الحبيب» والمقصود بها الاقليم المسمى تاريخيا وجغرافيا كُردستان العراق. والسؤال الاهم من كل ذلك اين هي الجهود التي تبذلها هذه الهيئة لمنع قتل الكُرد على الهوية في كافة المدن السنية، ما هو الأهم القتل والذبح على الهوية أم مسألة تغيير العلم العراقي.

5 ـ انعقد في بغداد أخيرا مؤتمر للعشائر العربية ضمن مؤتمرات المصالحة الوطنية، ولا ندري ما علاقة موضوع المؤتمر بمسألة الفيدرالية التي دعا المؤتمر بطلب من أطراف معينة الى تأجيلها، مثلما دعت الى ذلك مرارا «هيئة العلماء المسلمين»، دون استدراك ان ذلك يدق المسمار الاشد قساوة في جسد المصالحة الوطنية، ويثير المزيد من الشكوك لدى سكان اقليم كُردستان العراق وقيادته السياسية التي ادركت ان الأولى بها تحصين الجبهة الداخلية وتوحيد الادارتين ومواجهة المركز في بغداد بصوت واحد موحد، فيما يخص اعادة هيكلة الدولة العراقية فيدراليا، ما يعني بالضرورة ايضا تغيير العلم العراقي. وبالطبع فإن لغة التهديد والوعيد وعودة سلسلة الكوارث والمحن بحق الشعب الكُردي في العراق اصبحت في عداد الماضي، ولذلك كان الأولى بالسيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي التروي والصبر، قبل الاسراع الى رفض قرار رئيس اقليم كُردستان العراق، هذا الاقليم الذي يتمتع منذ عام 1991 باستقلالية واضحة عن المركز، وعودته الى حضن الوطن مقرونة بوجود «عراق ديمقراطي فيدرالي» والا فإن التقسيم وارد لا محالة.

* كاتب وسياسي كُردي