بغداد مفتاح أمن العراق

TT

رغم تعدد مراحل واوجه خطة أمن بغداد التي ارتهنت الآمال على تقدمها «الى الامام»، الا ان المنجز المتحقق يكاد يكون غير مرئي لجهة اعادة السلام «لمدينة السلام»، او للعشرات الذين ينتخبهم القتل اليومي بفعل اساليب باتت تقليدية ونألفها على وحشيتها ولا تثير الفزع، وأخرى مبتكرة في حجم الضحايا والتخريب، الا ان اللافت ان ذلك يرافقه كل يوم اعلان مقابل من قبل الحكومة وسلطاتها الامنية المتعددة المهام المحدودة الفعل، وكذلك من قبل متحدثي القوات الاجنبية، عن القاء القبض على عدد من الارهابيين وعن قائد لتنظيم القاعدة وآخر من فرق الموت والاغتيالات، والذي يجب ان يعقبه منطقياً تقدم كبير لجهة تفكيك خلايا الجماعات المسلحة وضربها بشكل جذري، او على الاقل تحجيم قدراتها بفعل المعلومات التي يفترض ان يتم التوصل اليها.

وهذا حال العالم كله في التعامل مع الارهاب، فإنه يبدأ بتفكيكه عن طريق خيط بسيط وربما بعيد، يقود الى ضرب الارهاب وبنيته ومصادر تمويله واسناده، ولكن الغريب أننا هنا يتم يومياً القاء القبض على قادة للقاعدة، ليعقب ذلك في اليوم الثاني تفجيرات ومسلسل دموي اكثر حدة. وهذا يقود الى استنتاج لا يمكن تجنبه، اما انه لا توجد منظومة معلومات أمنية قادرة وكفوءة، تتعامل مع جمعها وتحليلها وتوظيفها تمهيداً لاختراق الجماعات المسلحة وضربها استباقياً واجهاض فعلها، او ان خلايا الارهاب من الحرفية والدقة وانها تعمل بالاسلوب الخيطي او العنقودي، بحيث ان القاء القبض على مجموعة لا يؤثر على باقي التنظيم، او ان هذه الجماعات تتكاثر كالفطر وتتناسل يومياً، او انها تتفوق بامكاناتها واسلوب عملها على الدولة واجهزتها، وهذا مؤشر خطير ويثير اسئلة اخطر.

فالذي يفسر استمرار العنف وتركزه في بغداد، انها باتت الميدان الرئيسي للصراع وبوابة حسمه ايضاً، سواء للجماعات المسلحة او للقوى السياسية المرتبطة بها، او لتلك المراهنة عليها او على الحكومة، او حتى على الأميركان. وتدرك هذه الاطراف جميعاً ان بغداد هي الدولة والمرتكز، سواء من ناحية تقدم او تعثر العملية السياسية بكامل مفردات خطوطها الرئيسية، وهي المؤشر على استعادة الدولة لمكانتها الاقتصادية داخلياً واقليمياً وحتى دولياً، اذ ان عصب مقومات الدولة ينحصر فيها. ولذا فالسيطرة عليها او اضعافها أمنياً هو اضعاف لبنية الدولة العراقية بكاملها، في حين ان استقرارها او تأزمها ينتقل ويؤثر على باقي مدن العراق، وانها تمثل بسكانها الذين يشكلون اكثر من ربع سكان العراق وبمستوى مدنيتهم وتحررهم المفترض من روابط ما قبل الدولة، واشتراكهم كمجتمع مديني بروابط وظيفية ومهنية وطبقية ومصلحية، يمثلون الثقل للمشروع الديمقراطي ولممكنات نجاحه او فشله، فضلاً عن ما لبغداد من خطورة واهمية بصفتها قلب العراق النابض وروحه الوثابة وعقله المفكر وقريحته الثرة، ومركز وقيادة نشاطاته الفكرية والثقافية ومحور حركته الاقتصادية ومجال سوقه التجارية، ومبعث حيويته ونشاطه وأفق رخائه وازدهاره ورمزية تأريخه، وموطن تسامح وتعايش واندماج مكوناته.

فالجماعات المسلحة تدرك ذلك وهذا ما جعلها تنقل ثقل عملياتها الى بغداد مستفيدة من الوجود على اطرافها وسهولة الانتقال عبرها، مستغلة التماثل العشائري والمذهبي ما بين الجزء الغربي من بغداد ومناطق التوتر التقليدي في الانبار غرباً وفي مثلث العنف جنوب بغداد، وما توفره هذه البيئة من غطاء مجتمعي متعاطف قناعة او قسراً مع عمليات هذه الجماعات، والتي استغلت سهولة التنقل والاختفاء وتوافر الدعم العملياتي واللوجيستي واماكن الايواء الآمنة، واعتاشت على المظالم في جذب التأييد لها بتضخيم الحيف السياسي الذي لحق بابناء هذه المناطق نتيجة التغير السياسي الذي حدث في العراق، ومنتفعة من اخطاء وعسف تصرفات السلطة والقوات الاجنبية فيما بعد.

وفي سعيها هذا عملت على سياسة التطهير الطائفي لضرب التعايش ولخلق الانقسام الداخلي ولتوفير بيئة متجانسة تسهل لها التحرك الآمن، بجانب ان الجماعات المسلحة تدرك ان عملياتها مهما اتسعت وتعاظمت في باقي مدن العراق، فانها ستظل هامشية في تأثيرها كونها تجري في اماكن طرفية لجهة التأثير السياسي والاقتصادي، في حين ان العمليات في العاصمة تبقيها في عين الاهتمام الاعلامي الذي تتوخاه هذه الجماعات لاظهار قوتها، وللتدليل على فشل الحكومة في عقر دارها ومركز قرارها وعصب حياتها.

والحكومة تدرك من جهتها ان معركتها من اجل تحقيق الامن او بسط سيطرتها تظل ناقصة وفاقدة للمصداقية، عندما تضرب يومياً وتعجز عن تأمين عاصمتها، ولا يعود باستطاعتها اقناع العالم بالاستثمار معها سياسياً واقتصادياً. ولذا فإنها نقلت ثقل قواتها الى بغداد ووعدت باستخدام اساليب تتراوح بين تلك المستخدمة في القرون الوسطى من حفر الخنادق لتسوير بغداد الى استيراد تقنيات للكشف المبكر للمتفجرات. كما انها تدرك ايضاً ان التعايش المذهبي المستهدف بشراسة الآن باتت بغداد تمثل اختباره الحقيقي، وكذلك فإن مشاريع تشكل العراق سواء فيدرالياً او مركزياً او ما بينهما، تتحدد كلها على نتيجة معركة بغداد هذه.

وفي المقابل يدرك الأميركان ان مشروعهم الديمقراطي لا يمكن ان تكتب له الحياة من دون ان تكون بغداد مركز اشعاعه. كما انهم لا يستطيعون ان يدّعوا نجاحهم والعاصمة تثخن يومياً بفعل الهجمات والمفخخات وجثث القتل المجهول، او عندما تنازع الدولة سلطاتها الجماعات المسلحة والميليشيات. ومن هنا وفي الوقت الذي اصبحت معركة بغداد مفتاح استقرار العراق، فإنها ستكون ايضاً مفتاح انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي وحتى للرئاسة القادمة، كما انها باتت عاملاً مهما في تحديد المصير السياسي لقادة كبار في العالم، ومصير بقاء احزابهم في الحكم، خصوصاً تلك الدول التي لها وجود عسكري في العراق. ولذا يعود من باب اولى التأكيد على ان معركة بغداد التي ستحدد مصير العراق، اما كدولة مستقرة موحدة متعاونة وفاعلة في اطارها الاقليمي، او تنتهي به الى مكان مأزوم، ينتج ويصدر عدم الاستقرار، والذي لن يكون محيطه بعيداً عن شظاياه.