العودة إلى العصور الوسطى

TT

ظل البابا الراحل يوحنا بولس يطوف الأرض لكي يصالح الكنيسة الكاثوليكية مع تاريخها وتاريخ العالم. وكان كلما وصل إلى بلد ترجل من الطائرة وركع وصلى. وحاول تركي يدعى علي افجا اغتياله، فسامحه وأقام حتى موته علاقة صداقة مع عائلة افجا. وكان يستقبل والده وإخوته على الدوام بعيدا عن الأنظار ويحاول مساعدتهم.

حاول البابا الراحل القادم من بولونيا، بلد الحروب والإبادات وعذابات الاحتلال النازي والسوفياتي، أن يشيع روح السلام في كل مكان. وكان إذا وقع قتلى في فلسطين أو العراق أو لبنان أو الهند، خرج إلى نافذته ودعا للضحايا. وكان اكبر مشروع في مصالحات الكنيسة عنده، محاولة التقرب من الإسلام والسعي إلى رد الانفجار المتزايد بين الإسلام والغرب. ومن اجل ذلك أقام اللجان الخاصة في الفاتيكان وكلف الباحثين والعقلاء. ثم ذهب إلى لبنان للقاء المسلمين والمسيحيين «وإرشادهم» إلى الحوار والتكافل ووحدة المصير. وبعد رحلة لبنان بسنوات عاد إلى دمشق ووقف عند باب المسجد الأموي ورفع صلاته وأطلق نداءه من اجل التلاقي بين الإسلام والمسيحية. جاء البابا الراحل من بلد صغير، سحقته الحروب، واقضّ جيرانه حياة بنيه. مرة يزحفون من ألمانيا ومرة من روسيا. وجاء البابا الذي خلفه، بنيدكتوس، من ألمانيا، البلد الذي أشعل حروب العالم الكونية مرتين. والبلد الذي عاش أدمى الحروب المذهبية في أوروبا. والبلد الذي خرج منه مارتن لوثر ليؤسس حركة الاحتجاج (البروتستانتية) على الكنيسة الكاثوليكية ويحاول تدميرها. وهكذا حدث التغيير الكبير والخطير في الفاتيكان. فهو لم ينتقل من رجل إلى رجل بل من ثقافة إلى ثقافة ومن رؤية إلى رؤية ومن موقف حضاري إلى موقف.

لم يعد العالم يرى البابا على النافذة معلنا حزنه كلما حدث فيضان في الهند البوذية أو في العراق المسلم. تغير الأسلوب تماما. وانكفأ الرجل إلى الداخل على نحو من الغموض. وكان مؤسفا اشد الأسف انه عندما قرر أن يحاضر في بلدته لم يعثر في تاريخ المسيحية والإسلام ما ينقل عنه سوى إمبراطور بيزنطا في القرن الرابع عشر. وقد حدا ذلك بسياسي تركي إلى القول إن البابا الألماني لا يزال يعيش في القرون الوسطى. إن الإسلام والمسيحية اليوم في حاجة إلى شهادات المستنيرين وذوي النوايا الحسنة ودعاة المصالحة والحوار. وقد ارتكب البابا خطأ شخصيا وقياديا ودينيا واضحا في عودته إلى شهود ومفلسفي الخلاف والنزاع. وما أكثرهم في التاريخ الأوروبي. والمطلوب، على مستوى الكهنة الصغار، وليس فقط على مستوى البابا، الخروج من القرون الوسطى لكي لا تتكرر هذا القرن. وأفضل ما يمكن أن يفعله البابا هو أن يقلد سلفه في التواضع. وان يعترف بأن ما قاله كان رديئا. والأسوأ في الأمر، أن هذا ما نقله وليس ما قاله. وقاعدة ناقل الكفر ليس بكافر لا تنطبق إطلاقا على رجال في موقع البابا. يجب أن يكونوا أوعى وأحكم من ذلك.