واجباتنا.. وحقائق التخبط الإسرائيلي

TT

حقيقة ان اسرائيل بعدوانها وقمعها للانتفاضة قد قفزت قفزات غير محدودة في سياسة العداء للإنسان الفلسطيني، مبينة ومتبنية سياسة عنصرية وحشية فاقت بدرجات عنصرية نظام التمييز العنصري السابق في جنوب افريقيا.

فعنصرية الدولة العبرية لم تميز بين الطفل أو المرأة أو الشيخ سواء ضد فلسطينيي الضفة والقطاع أو ضد مواطنيها من حاملي الجنسية الاسرائيلية والمتحدرين من الأصل الفلسطيني. وتمثلت وحشية الدولة العبرية في هدم المنازل وتشريد العائلات الفلسطينية.. لحماية أصغر مستوطنيها السارقين للأرض.

في المقابل الحقيقة التي أكدها الانسان الفلسطيني فكانت حقه في المقاومة للتخلص من الاحتلال واقتناعه بأن الاسرائيلي لن ينعم بالأمن من دون ضمان أمن مساو للطفل الفلسطيني وهذا خيار للإنسان الفلسطيني في الداخل.. احترمه برغم نبذي العنف بكل اشكاله. حقيقة تضرر الاقتصاد الفلسطيني الذي تقدر خسارته بثلاثة مليارات دولار خلال الستة أشهر الأولى، ولكنني ازعم جازمة ان تضرر الاقتصاد الاسرائيلي اكبر بكثير، وان ذلك الضرر سيكون اكبر تأثيراً على المجتمع الاسرائيلي، الذي تعود الرفاهية وعلى مستوى عال من المعيشة، عكس المجتمع الفلسطيني البسيط المحدود الدخل.

تضرر قطاعات البناء والزراعة والسياحة في الدولة العبرية فاق الملياري دولار مما اضطرها الى توقيف عمل نحو 65% من عمالها. ولكن الضربة الأكبر هي تضررها من الناحية المعنوية ـ نفسياً واجتماعياً واعلامياً.

لقد حصل تضرر الاقتصاد مع تباطؤ الاقتصاد الاسرائيلي نظراً لتوقف الاستثمارات الخارجية وسقوط اسهم التكنولوجيا في اسرائيل، وأكبر مثل هو شركة كومبرز التي كانت قيمتها 11 مليارا. ولكن الخسارة الأهم للدولة العبرية هي وقوفها في مقدمة الدول التي يعاني طلابها من العنف في المدارس سواء العنف الجسدي، من الاعتداء على بعضهم بعضا، أو العنف الكلامي.. هذا الى جانب زيادة الاحباط بين جنود الاحتياط مما سيؤدي الى فتح عيادات نفسية، لهم مثلما حصل في «الانتفاضة» الأولى. ومجموع هذه الحقائق من عنصرية وعنف ونفسيات مريضة كلها عوامل انهيار داخلي..

ولكن ما هي الاهداف الحقيقية للدولة العبرية الآن؟

اسرائيل لن تقدر على الضم الفعلي لبقية اجزاء الضفة والقطاع، لأن ذلك سيمثل عبئاً مادياً وسيفضح عنصريتها وتغييب ديمقراطيتها، فهي حتى اليوم لا تملك دستوراً يحدد حدودها الجغرافية ويعرف حقوق المواطن وواجباته Bill of Rights، هذا الى جانب ان الضم الفعلي سيهدد طبيعة الدولة اليهودية نظرا لما هو معروف عن ارتفاع نسبة التكاثر السكاني العربي.

اذن الهدف الحقيقي للسياسة القمعية الاسرائيلية واضح، وهو إما طرد الشعب الفلسطيني وتهجيره وبالتالي تصدير المشكلة الى خارج حدودها وترك حلها للدول العربية بالشكل الذي تقرره الانظمة العربية. وبالطبع لن يكون هذا على حسابها ولا على حساب شعوبها. أو بقاؤه تحت الاحتلال والسياسة العنصرية في أشد واسوأ حالات الفقر المدقع ليكون عمالة رخيصة لتقدمها الصناعي.

من هنا نجد الحاجة ملحة للتدقيق الموضوعي الصادق وتحليل ما الممكن عمله لانقاذ الطفل الفلسطيني من براثن الوحشية الاسرائيلية.

حقيقة ان تعاطف الشعب العربي لم ينقطع، ولكن هل من الممكن رفع سقف هذا التعاطف الى مستوى دفع القيادات العربية لتبني سياسة عسكرية واحدة باستراتيجية واحدة؟.. وما مدى قدرات هذه الآلة العسكرية؟ وما هو هدفها؟ هل هو سحق الدولة العبرية كما هللنا سابقاً أم اخضاعها للشرعية الدولية واجبارها على التقيد بقرارات الشرعية لإحقاق شيء من الحقوق الفلسطينية؟.. وهل من الممكن تجنيب المنطقة حربا مدمرة سيدفع ثمنها الجميع ولن تعود بالنفع على احد؟

الحاجة ماسة الى تحليل موضوعي ونظرة صادقة الى الذات، علنا ننجح في ايجاد صيغة معقولة لمساهمة فعالة من القيادات العربية، من أن يبقى الإنسان الفلسطيني عبئاً على المنطقة العربية، التي هي ايضا في امس الحاجة الى الاصلاحات الداخلية على كل المستويات.

ولنبدأ بما لدينا:

أولاً: تفاديا لتصدير الانتفاضة من الأراضي الفلسطينية وهو ما يقلق عددا من الدول العربية ومن هنا اتبعت بعض القيادات سياسة «الدعم الشحيح» الذي قد يؤدي الى انهائها. وخطر هذا السيناريو قبول السلطة الوطنية الفلسطينية بالشروط الاسرائيلية لتسوية هزيلة لن تصمد. أي وصفة مؤقتة تبعد «انتفاضة» أكبر تنتقل عدواها الى بقية اقطار الدول العربية، وقد تنقلب الى ثورة او ثورات تهدد وتطيح بالأنظمة العربية.

ثانياً: انهيار السلطة الوطنية وهرب قيادتها، الأمر الذي سيخلق فوضى تتخذها اسرائيل ذريعة لعملية تهجير (ترانسفير) قسرية للفلسطينيين الى الدول العربية المجاورة والتخلص كلياً من العبء الفلسطيني والتطبيق الفعلي لمقولة شارون بأن الأردن هو الوطن البديل برغم تأكيداته الشفهية للحكومة الأردنية بعكس هذا الرأي.. نتيجة هذا السيناريو طبعاً اطاحة الحكم الاردني.

ولكن الخطورة الأكبر، أن هذا الوضع لن ينهي الصراع بل سيعطيه فرصة أكبر للتعبئة العسكرية الفعلية ضد الوجود العبري بكل اشكاله، الى جانب انضمام الشارع العربي، منفسا عن نقمته وساعياً الى ما يتطلع اليه من آمال لوحدة عربية يرجو معها تحسين اوضاعه المعيشية الى جانب ما ستخلقه عملية التوطين من تهديد للتركيبة السكانية في الدول العربية الأخرى.. أي استمرار حالة اللا استقرار للمنطقة وهدر الكثير من الموارد البشرية والاقتصاية لحقبة طويلة.

هاتان النقطتان قد تجران الى سلسلة من النتائج ابرزها:

ـ تأخذ نقمة الشارع العربي وانتشار موجة من العنف في المنطقة شكل محاولات عسكرية محدودة ذات صبغة متطرفة لن تؤدي الى شيء ملموس.

ـ خسارة اعلامية دولية تضاف الى خسائرنا السابقة في تشويه صورة الانسان العربي ووصفه بالارهاب.

ـ تدهور الوضع الاقتصادي للانسان العربي في كل المنطقة هو تدهور لن يدفع ثمنه سوى ابناء الكادحين.

بناء على ما سبق وبالنظر الى التزام الدول العربية بأنها جزء من المجتمع الدولي الداعي الى نبذ العنصرية والحرب والحض على العمل على تحسين حياة الشعوب واحترام الاستقرار العالمي، سيتوجب على هذه الدول الصدق مع نفسها ومع شعوبها ومع الانسان الفلسطيني.. تبعا للمتغيرات الواقعية.

وقد رأينا بأم العين تمزق المنطقة العربية بعد حرب الخليج واعادة النظر في المشروع القومي برمته، وانصراف كل من الحكومات العربية للدفاع عن مصالحها الخاصة والمحلية المحدودة.

ثم ان اعتماد الانسان الفلسطيني المادي والمعنوي على الدول العربية وهو ما يمثل حجر الاساس في استمرارية قيادته رغم ما تأكد من سوء الاستراتيجية التي اتبعتها هذه القيادة، اضافة الى الفساد المالي والاداري المتفشي في اوصالها يعطي الحق للدول العربية، التي التزمت بهذا الدعم، بالسعي الى الحل المنطقي والمعقول والمستند الى الشرعية الدولية، ان هذا الاعتماد يؤكد في الحقيقة مسؤولية الدول العربية في المجتمع الدولي على ايجاد الحل الانسب على ضوء المتغيرات العربية والدولية، لكن في مقدمتها مصلحة المنطقة العربية ككل ومصلحة الشعوب العربية.

ان تبني الدول العربية السلام خياراً استراتيجياً والاعتراف بالدولة العبرية في حدود ما قبل 67 واستبعاد الخيار العسكري من الاستراتيجية العربية يلزم هذه الدول بأخذ زمام المبادرة وايجاد البديل المنطقي لدعم الانسان الفلسطيني من دون ابقائه عبئاً وخطراً على اخيه الانسان العربي.. او فريسة لمحرقة الصهيونية.

ان التناقض الحاصل على الساحة الفلسطينية ما بين تصعيد في المقاومة ليكون وقودها الطفل الفلسطيني من ابناء الكادحين وما يليه من استجداء القيادة لمفاوضات امنية، يخلق ارباكاً في ذهنيه الانسان العربي والغربي لماهية الاهداف الحقيقية للقيادة.. هل هي الاستقلال الفعلي.. أم المحافظة على مكاسب فردية؟

وعليه المطلوب توضيح الاهداف الحقيقية للقيادة الفلسطينية الداخلية والمعارضة الخارجية التي تعتبر ان «الانتفاضة» والتخلص من الاحتلال ما هي الا مرحلة هدنة مؤقتة لحين التحرير الكامل والعودة الى تأكيد الاهداف الفلسطينية كماجاءت في الميثاق الوطني في السابق.

فالمحادثات السرية المستمرة، المباشرة منها وغير المباشرة، ما بين القيادة واعضاء من الحكومة الاسرائيلية تبعثر الدم الفلسطيني والثقة الفلسطينية ناهيك من اموال الدعم العربي، وهذا عنصر اضافي يعطي الحق للدول العربية المعنية بالإنسان الفلسطيني للتدخل لحمايته، وذلك بطرح اهداف ورؤية جديدة واقعية واضحة للنزاع العربي ـ الاسرائيلي.. تؤكد النيات العربية الصادقة في انهاء النزاع.

ان «الانتفاضة» الفلسطينية وما كشفته حتى الآن عن العنصرية الإسرائيلية هيأت البيئة الدولية للتعاطف الأكبر مع الإنسان الفلسطيني ولكن من دون التضحية بالإنسان الإسرائيلي..

ولكن مخططات ارييل شارون العدوانية التي ادخلت المنطقة حقاً الى اجواء الحرب يجب ان تدعو الدول العربية الى التحرك وبسرعة على المستويات الدولية كلها باتجاه تنشيط المبادرات الدولية وارجاع القضية الى الأسرة الدولية متمسكين بالتطبيق الكامل للقرارات الدولية 242 ـ 338 بلا مستوطنات.. بما يكفل انهاء النزاع وليس تأجيله أو تصديره.

مطلوب البحث الأولي في القضايا التي تحد من، بل وتنهي المعاناة للاجئ الفلسطيني بإعطائه الحقيقة بدون اي تزييف.. واستحالة تطبيق حتى القرارات الشرعية على حساب خلق معاناة جديدة لإنسان آخر. وبالتالي الخيار الممنوح له اضافة الى التعويضات المادية هو استعمال المستوطنات كبادرة حسن نية من الاسرائيليين كجزء من عملية التعويضات. ومن ثم التفاوض حول العدد الممكن استيعابه من الدولة العبرية بما لا يتعارض مع ولا يهدد وجودها المعترف به عربياً ودولياً.

مطلوب التأكيد على ان القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من أراضي الضفة التي احتلت عام 67، ولكن تأكيدا لحسن النية العربية التقيد بقرار لجنة التحقيق الدولية عام 1927 والذي نص بأن «حائط البراق» يمثل جزءاً صغيراً جداً من الحرم الشريف وتعود ملكيته الى المسلمين وأن رصيف هذا الحائط ايضاً ملك للمسلمين، ولكن لليهود حق العبادة على هذا الحائط بدون حق الملكية.

ان ما اراهن عليه هنا شيئان، هما ان أي تحرك عربي واسع وشامل ومبسط يستند الى هذه المبادئ ومن دون أين تغيير ويبرز ويركز على المطامع والوحشية والعنصرية الاسرائيلية.. سيكسب مصداقية واحتراماً وتعاطفاً على المستوى الدولي.

وان عجز الاسرائيلي عن الصبر طويلا على استمرار حالة «اللا امن» في الدولة العبرية سيحثه على اعادة النظر في قدرة قيادته على حمايته امام الحق الفلسطيني.

* ناشطة في حقوق الانسان.