صناعة السحر

TT

السحر لا يزيد عن خيال. وليس له قاعدة من الحقيقة. والسيارة لا تمشي بدون وقود حقيقي. ولكن العقل يمكن اغتياله بالخرافة. ويمكن للجماهير أن تعيش على الأحلام. كما أن الإنسان يمكن أن يمشي بطاقة وهمية. واذا كان حاوي السيرك يضحك على الجمهور فيخرج من القبعة الأرانب، فإن السياسيين يمكن أن يخدعوا جمهوراً كاملاً فيخرجون من صناديق الانتخابات بطاقات مزورة. واذا هزم قائد عسكري في معركة مصيرية علا منصبه على قدر الهزيمة. واذا مات مشت جماهير حاشدة في جنازته تهتف وتنتحب وتلطم الوجوه. ويفكر المرء أحياناً هل هو مجنون أم هم مجانين أم أن الكل في عالم مطبق من الجنون هائمون. هل نحن في وطن أم مصحة عقلية. إننا نعيش فعلاً في عالم مسحور. ان هذا لشيء عجاب. ولكنه واقع أثقل من نجم نتروني.

في مطلع القرن العشرين لمع نجم ساحر في أميركا اسمه (هوديني) كان يسلسل في الأصفاد بقفل ثقيل، ثم يحشر في صندوق خشبي عاري البدن إلا من سترة سباحة ثم يحكم إغلاق الصندوق بالمسامير على أعين الناس، ثم يطوق الصندوق بدوره بحزام جديد من السلاسل محكمة الرتاج بأكثر من قفل، ثم يلقى في الماء أمام ذهول الناس الذين يحبسون انفاسهم ويطول الأمر احياناً الى فترة أربع دقائق. واذا بهوديني يخرج من الماء يحمل السلاسل المحررة بيديه فيلقيها أمام جمهور يصفق ولا تصدق عيناه. وبدأ الناس يتناقلون اشاعة مفادها ان الرجل يخرج من الصندوق من خلال تحويل جسده الى روح شفافة تتسلل من المحبس وتتحرر من كل السلاسل والأقفال والمسامير. وقالت طائفة منهم إن هذا هو السحر بعينه وإلا فماذا يعني السحر إن لم يكن هذا؟ وقال العقلاء من القوم ان هذا الشيطان يتملص بطرق عادية مجهولة الكيفية تدرب عليها طويلا ولا نعرف ماذا يفعل الخبيث على وجه الدقة حتى يتحرر من كل هذه الاصفاد. ومات الرجل في النهاية وعمره 52 سنة بالتهاب زائدة دودية فلم يغن عنه سحره وما كسب.

وفي الفترة نفسها من ثلاثينات القرن العشرين انتشرت حمى جديدة من السحر أشرف عليها رهط من المشعوذين يدعون أنهم يستحضرون الأرواح ويستنطقونها ويسألونها عن عالم الغيب ومجريات العالم الأخروي ومصير البشرية. فكانت تلك الأرواح تنطق بلسان انجليزي مبين وتحكي قصصاً مسلية من عالم الأموات. كل ذلك كان يتم في غرف مظلمة عابقة بالبخور بين يدي رجال ونساء اشكالهم عجيبة وملابسهم مزركشة وشعورهم منفوشة وأعينهم جاحظة يمدون أيديهم الى آخر دولار من جيوب العملاء.

ومما روي عن زوجة (هوديني) أنها بقيت تنتظر عودته قبل أن تصل إلى القناعة أن روح زوجها لن تعود وأن الأموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون. وفي الهند هناك مدينة عجيبة تضم جموعا من السحرة يمكنهم ان يجعلوا الحبل يقف منتصبا بعد نفخة مزمار فيتسلقه طفل ولكن كل سحرهم لم يحررهم من فقر مزر.

وفي بلد عربي اجتمعت بشيخ يدعي وصلا بعالم الجن قد حمل ذراعه في جبيرة جبصية قال لي: لقد كنا في الجهاد عندما حمي الوطيس مع نفر من الجن. وكان الكسر من رفسة من مريض نفسي. ثم بدأ يتحدث عن (عيادته) التي يتقاطر اليها المئات من كل الشرائح الاجتماعية ومن الجنسين ومن أساتذة الجامعة وأشخاص مهمين في حركات اسلامية، كان قد أسس فعلا شركة محدودة المسؤولية للتعامل مع الجن بالاتجاهين ادخالا واخراجا على مدار أربع وعشرين ساعة. وطفق الناس في المنطقة يفزعون من دورات المياه والظلمات فقد تكاثرت الجن فجأة واحتدمت اصواتهم وحمي جدلهم وارتفعت طبقة موسيقاهم وطربهم و(دبكهم).

كان الدجال يمر عادة وسط كوكبة من (المهسترين) فيصيح احدهم فلا تلبث ان تنشب حفلة المصارعة لإخراج الجني ولا تكلف سوى بصقة من فم الشيخ يتفلها في وجه المصاب ثم يبدأ العراك فيبطح الرجل أرضا على يد أعوان غلاظ شداد لا يعصون الشيخ ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. يبرك الشيخ على صدر المختنق ثم يزيده خنقا بضغط عنقه فيستغيث المسكين وتخرج الكلمات من فم الضحية اقرب الى الحشرجة فيصيح الشيخ لقد نطق (الجني) ثم يردف اخرج أيها الجني المارق أنا آمرك أن تخرج من رأس إبهام قدمه اليمنى وليس أمام الجني إلا أن يخرج من حيث أمر.

وقال الدجال في شريط استمعت له إنه استطاع أن يخرج جنياً من بطن صبي ابتلع حبة بندورة ولم يسم. وراجت اشاعات قوية عنه أنه كان يطفئ نيراناً لا تنطفئ.

وكان من يناقش في دعواه يزندق أنه ينكر حقيقة الجن. ولم يكن النقاش يدور عن الجن بل وجودها في بطن الصبي المسكين.

كان الشيخ يشرح نظريته للمرتابين: إن عملي يقوم على ثلاث: فأنا أعالج أمراض (دخول الجن) وأما الأمراض البسيطة في البدن فأتركها للأطباء والمشافي. وثانيتها أنا أداوي بالقرآن الكريم وبالطبع لم يكن ليداوي بالكتاب الأحمر لماوتسي تونغ. وثالثتها أنا أقدر على جن السهول المؤمنة وليست لي طاقة بجن الجبال المارقة. ويبقى (رابعا) وهو لا يصرح بها أنه لا يمتنع عن قبول الهدايا التي سينفقها في سبيل الله أو على (المجاهدين الأفغان) وكانت معجزاتهم في تلك الأيام ناشطة.

كان الدجال يضرب ضربته ويحزم صرر المال ويبني قصره بهدوء وينظم أوقات عيادته التي غصت بالزوار والمراجعين في تربة عقلية تم اغتيالها منذ أيام يزيد ويستمر في العلاج وسحب المال مدرارا فإذا وصل الى النهاية بدون شفاء وهو الذي يحدث كان سببه أحد أمرين، فإما كانت جن الجبال المستعصية المارقة أو الأمراض العضوية التي لا سبيل له عليها.

إن الاغتيال المنظم للعقل لا نهاية له. واليوم عرف العلم طرفا من أسرار (هوديني) فهو تدرب لسنوات على الغطس في الماء المثلج وحبس انفاسه لدقائق طويلة حتى اصبحت في منزلة العادة عنده. وعرف ان معصميه تكيفتا بالتدريب الطويل على التملص من الأقفال.

وعرف أنه كان يستخدم أصابع قدميه ببراعة أنامل يديه وأنه بمسمار صغير كان يفتح أعتى الأقفال. كل ذلك بطول تدريب وبراعة أتقنها وعشق لا يضاهى للمال والشهرة.

وكل إنسان يوجد نفسه بطريقة ما فمنهم من يمارس السحر ويغتال العقل. ومنهم من يمشي على الحبال ليهوي يوما من شاهق فيقتل. ومنهم من يصعد الجبال حتى ينقطع نفسه على قمة (إفرست) فيبقى شبحا مجمدا في الثلوج آية للمتوسمين لفي سبيل مقيم يحدق في الذاهب والغادي. ان قصة السحر لتسلية الناس جميلة لولا الاحتيال لسرقة الناس واغتيال العقل على نحو خفي منظم. وأتذكر من خبرتي الشخصية أنني كنت يوما في مطار فرانكفورت في ألمانيا عندما انتصب أمامي فجأة رجل مثل الجني ثم بدأ يمارس سحره وأنا احدق فيه على بعد ثلاثة امتار ورأيت وأنا أفرك عيني كيف طلب من احدى النساء الحاضرات التمدد على حافة كرسيين ثم رفع احدهما فإذا بالمرأة معلقة في الفراغ لا يسند رأسها إلا طرف كرسي. فعل كل ذلك بدون أن يمد يده للصدقة لكن الناس هرعت إليه فتبرعت بما هو أكثر من الصدقة. ان السحر وهم ولا يمثل الحقيقة لكن الناس تعتقد فيه بأشد من الحقيقة فيلجأ الناس الى الساحر على نحو ما لفك الغاز عجزوا عن حلها وهذا يحمل ثلاث مخاطر: الاحتيال على الناس وتعطيل العقل عن فهم الكون أنه يقوم على سنن الله في خلقه وثالث تعطيل الطاقة عن الدخول الى مسارها وإن العلم اليوم ليفعل أشد من جن النبي سليمان.

فهذه ثلاث حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض. وهذا هو الفرق بين العلم والسحر. ليس فيه سر. ويمكن تبادل الخبرات فيه وتنميتها بدون حدود. ويمكن لأي شخص تعلمه وتسخيره. وعندما قرن القرآن تعلم السحر بأنه من الشياطين الذين كفروا يعلمون الناس السحر. وأنه من أتى كاهنا أو عرافا فقد كفر بما انزل على محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يريد تأسيس (العقل الاستدلالي) في وجه المعجزة والخارق والأسطوري. وبقدر تركيز القرآن على سنة الله بقدر كتابة تاريخنا على نحو منكوس وتشكيل عقلنا على منهج الخرافة في (علل عشر) يعاني منها العقل العربي فهو يرزح في الشلل حتى إشعار آخر. هكذا كتبت السيرة في ظل المعجزة والخارق بحيث استحالت الى كرونولوجيا غزوات ومسلسل معجزات.

إن تحرر العقل من الخرافة أمر شاق ويعتقد الفيلسوف محمد إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني) أن العقل المنهجي الاستدلالي أمر (كسبي) فلا يولد معنا بل تشكله الثقافة فيجب صيانته وتطويره المرة بعد الاخرى، مثل حالة الطيارة بعد الإقلاع فبعد تلك القفزة العملاقة الى فضاء السنن يجب صيانة هذا الكسب وتطويره بدون توقف. يقول (آينشتاين) ان كشف الحقيقة مرة واحدة أمر غير ذي بال ولا يكفي.

إن الحقيقة تشبه تمثال الرخام المنتصب في صحراء تضرب فيها عواصف الرمل بدون توقف والأيدي الدؤوبة الماهرة التي تنفض عن التمثال الغبار بلا سآمة وكلل هي التي تحافظ على لمعانه تحت ضوء الشمس. ويعتبر (ليسنج) من فلاسفة التنوير أنه لو قدم الله لعباده الحقيقة النهائية في يده اليمنى والشوق الخالد الى البحث عنه في يده اليسرى ومعها الخطأ لكل من سلك هذا الطريق كان علينا أن نركع بخشوع أمام اليد اليسرى ونقول يا رب امنحنا ما في يسراك لأن الحقيقة النهائية والمطلقة هي لك وحدك.

إن العقل مهزلة كما يقول (علي الوردي). ويعتبره آلة للإنسان لا تزيد عن أسنان السبع وقرن الخرتيت وفك التمساح وناب الأفعى وزعنفة العقرب. أي أنه أداة التنافس للبقاء على قيد الحياة اكثر منه أداة في تمييز الخير من الشر والهدى من الضلال. ويعتبر (سكينر) من مدرسة علم النفس السلوكي ان ما يسمى العقل والكرامة لا يزيد عن خرافة. أما (مدرسة علم النفس التحليلي) فترى أن الدوافع الاساسية التي تحرك الإنسان قادمة كالزلزال من عمق طبقات (اللاوعي) وهي تتحكم في 95% من تصرفاتنا ويبقى (الوعي) في ظلمات المحيط يسلط ضوءه مثل منارة الشاطئ بقوة لا تزيد على 5 % وبتركيز وعي متنقل. ان الوعي بهذه الصورة لا يزيد عن رأس جبل جليد التيتانيك الشارد. وإن الكثير من الكوارث التي تحدث يحركها اللاوعي أي جبل الجليد المختبئ تحت السطح.

إن معركة (ستالينغراد) التي مات فيها مليونا انسان في أعظم مذبحة مرت على وجه الأرض لم يكن فيها أي جدوى استراتيجية وذبح الناس بعضهم بعضا في الأوحال في مسالخ فعلية بسبب نفسي بحت بين عناد الطاغيتين هتلر وستالين. وفي النهاية دمر باطل باطلا الى حين ثم اجتثت جذور الباطل الآخر بعد سبعين سنة.

ان السحر في الواقع ثلاثة أنواع: ما يتسلى به الناس من نموذج (هوديني) وهو غير ضار. أو ما تمارس به الخرافة في وسط طلق العقل في (بينونة كبرى). وهو هنا يسرق عقول الناس أو يحدد مصائرهم من زواج وطلاق وهو ما تحدث عنه القرآن في سحر (هاروت وماروت) ولكن السحر الأعظم (الأسود) هو السحر السياسي وصراع موسى مع سحرة فرعون كان يدور حول المصير السياسي لفرعون وهؤلاء المرتزقة (المثقفون الكاذبون في ذلك العصر) فكان جواب فرعون انه ليس المال فقط بل المناصب والنفوذ. (يسعون) الى صناديق انتخابات مزورة وهم يعرفون أنها مزورة ويخيل اليهم أنه (يجب) أن يذهبوا ولا مفر من الذهاب، ويخيل إليهم أنه (يجب) ان يقولوا نعم فهل هناك سحر اعظم من هذا. ان الكهنة السياسيين اليوم لا يختلفون عن كهنة المعبد في الكرنك أيام الفرعون (بيبي الثاني) فلقد روعوا الناس واسترهبوهم كذلك يتظاهر السحر السياسي في قصة مجلس الأمن وجمعية الأمم المتحدة وعلاقة الحكومات بأميركا. فمجلس الأمن اليوم هم كهنة (دلفي) قديما. ونحن نظن فيهم مثل ظن الدراويش بقبر الشافعي. فكما يعلق الدراويش الحرز على قبره أو يرسلون له المكاتيب ليستجيب فلا يستجيب فإن مجلس الأمن اليوم هو كما وصفه عيسى عليه السلام انه ذلك القبر المطلي بالبياض الناصع من الخارج ولكنه من الداخل (نجاسات وعظام أموات).

إن مجلس الأمن اليوم الذي نعقد عليه الآمال هو مكان نصب الآلهة الكبرى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى من بريطانيا وأميركا وروسيا والصين وفرنسا فهذه هي الأصنام الخمسة الجديدة التي تعيق بنظام الفيتو ولادة العدل في العالم. وهناك في العالم العربي من يتلمظ لمقعد في مجلس الأمن فيقول كما قال من حول موسى له حينما عبر بهم البحر: «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون».

والسحر الثاني هو جمعية الأمم المتحدة التي هي ناد لتزجية الوقت فبدلا من (لعب) الطاولة يتم (اللعب بالكلمات) كما وصفها (جواهر لال نهرو). وهي ناد ميت لا يملك ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وأما السحر الثالث فهو الفزع الأكبر من هبل الأعظم أميركا. وسر الخوف بسيط هو أن كل طواغيت العالم الأقزام يأخذون شرعيتهم من الطاغوت الأعظم العملاق وكل العالم مبني على الشرك والطغيان. إننا في متحارجة صعبة ومعادلة تقترب من الاستحالة في حلها. فلا نفهم أننا مسحورون عميت أبصارنا ختم الله على قلوبنا مرتهنين في شبكة سحرية في قبضة ملك الجان. وليست عندنا رقية نتعوذ بها. وكل الحبال الأميركية نتوهم أنها افاعي (الاناكوندا) يخيل إلينا من سحرهم أنها تسعى.

وقف جحا يوما فصاح بالناس احمدوا الله يا جماعة قالوا خيرا إن شاء الله. قال لقد ضاع حماري اليوم قالوا ثم ماذا. قال احمدوا الله انني لم أكن على ظهره.

Kjalabi @hotmail.com