حقيقة اتصالات عبد الناصر مع إسرائيل

TT

أثار الخبر الذي أشارت إليه «الشرق الأوسط» يوم 5 مايو (ايار) الحالي عن نشر الخارجية الأميركية لتقرير عن قيام جمال عبد الناصر بارسال رسالة سرية إلى الرئيس الأميركي السابق ليندون جونسون في شهر ديسمبر (كانون الاول) 1967 عرض فيه استعداد مصر للاعتراف باسرائيل وانهاء حالة الحرب، أثار قضية مهمة لم تسلط عليها الأضواء بدرجة كافية، وهي احتمالات السلام وحقيقة الاتصالات بين العرب واسرائيل في عهد جمال عبد الناصر.

والوثيقة التي أعلنتها الخارجية الأميركية وأفادت بأن عبد الناصر قد أقام قناة اتصال سرية عبر وزير العدل الأميركي جيمس بيردسال متجاوزاً قنوات الاتصال الرسمية، لا تعتبر هي نقطة البداية في الاتصالات التي استهدفت السلام بين العرب والاسرائيليين، والتي لم تبدأ مع هزيمة 1967 وانما بدأت مع قيام ثورة 23 يوليو (تموز) 1952.

المشكلة مع اسرائيل لم تكن ملفاً في أدراج المحفوظات، ولكنها أيضاً لم تكن في بداية الثورة قضية ملتهبة، وكانت الفرصة متاحة لحلها عندما كان موشي شاريت وزيراً لخارجية اسرائيل ثم رئيساً لوزرائها، وتمت في عهده اتصالات سرية عبر السفارة المصرية في باريس عندما كان ثروت عكاشة ملحقاً عسكرياً، وعبر نائبين بريطانيين هما ريتشارد كروسمان، وموريس أورباخ.. وكانت قضية اللاجئين هي المحور الرئيسي للحوار وقتها. وقد قبل موشي شاريت عودة 100000 لاجئ.

ولكن بن جوريون الذي خرج من رئاسة الوزارة مجبراً لانتهاجه سياسة استفزازية أعلن أنه سوف يعتزل في مستعمرة منعزلة في صحراء النقب ثم لم يعتزل وإنما تآمر على شاريت بتدبير ما عرف باسم (فضيحة لافون) التي أرسل فيها فريقاً من العملاء في يوليو 1954 لتفجير القنابل في دور سينما مملوكة للبريطانيين ومكتب الاستعلامات الأميركي في الاسكندرية، وذلك لمحاولة تخريب المفاوضات المصرية البريطانية.

وكان بن جوريون مسنوداً من السياسة الأميركية باعتباره مهندس العلاقات بين الدولتين بعد أن كان وايزمان هو مهندس تربيط علاقات اسرائيل مع بريطانيا. ولذا فقد أعادته أميركا إلى منصب وزير الدفاع بعد أن تأكد جون فوستر دالاس وزير خارجية أميركا من رفض مصر الانضمام للأحلاف العسكرية الغربية تحت المظلة الأميركية.

وما كادت تمضي عدة أيام على عودة بن جوريون إلى وزارة الدفاع حتى قام الجنود الاسرائيليون في 28 فبراير (شباط) 1955 بغارة وحشية على غزة قتلوا فيها 29 من رجال الجيش وعدداً من المدنيين الفلسطينيين، واعتبرت نقطة تحول في مسار السياسة عبر عنها جمال عبد الناصر بقوله في خطاب أمام طلبة الكلية الحربية في 2 أكتوبر (تشرين الاول) 1955 (إنها كانت ناقوس خطر جعلنا نبحث في تعريف السلام ومعنى السلام وتوازن القوى في المنطقة) وانتهى الأمر إلى عقد صفقة الأسلحة التشيكية مع الاتحاد السوفيتي بعد الاتفاق على ذلك أثناء انعقاد مؤتمر باندونج. ومع ذلك لم تتوقف الاتصالات السرية التي قام بها روبرت اندرسون وزير الخارجية الأميركي السابق والصديق الشخصي لايزنهاور، ولكنها لم تدم طويلاً كما قال بن جوريون في كتابه «العرب والفلسطينيون وأنا» لأن المؤسسة العسكرية كانت تدبر المشاركة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 الذي كشف الروح العدوانية لاسرائيل.

ومع ذلك فإن جمال عبد الناصر أوضح المواقف السلمية لمصر في مارس (اذار) 1957 عندما قال «إن الجلاء عن غزة وشرم الشيخ يضع نهاية لعملية غزو مصر، ومصر الآن مستعدة لحل أي مشكلة معلقة بوسائل سلمية».

وبعد جلاء القوات الاسرائيلية عن مصر في ابريل (نيسان) 1957 بدأت مرحلة جديدة وقعت فيها أحداث مهمة مثل قيام الجمهورية العربية المتحدة في فبراير عام 1958، وقيام الثورة العراقية في يوليو من نفس العام، ثم الخلافات التي وقعت بين جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم مما أدى إلى وقوع خلافات مع الاتحاد السوفيتي وتبادل الاتهامات بينه وبين خروشوف وبدء مرحلة من التقارب مع اميركا التي أصدرت قراراً بامداد مصر بالقمح، وعندما تولى جون كيندي رئاسة اميركا تم تبادل خطابات بينه وبين عبد الناصر تناقش المشاكل المحلية والعالمية، وكانت مشكلة اسرائيل محوراً من محاور النقاش كما يتضح من الخطاب الذي كتبه جمال عبد الناصر يوم 18 أغسطس (آب) 1961 مبدياً استعداده للمساعدة في حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المأساوية على أساس مبدأ إعادة التوطين والتعويض وتقديم العون لاحراز التقدم في الجوانب الأخرى من هذه المشكلة المعقدة على حد تعبيره.

ولكن الاتصالات التي تمت مع كيندي ثم جونسون لم تحل بدون تنفيذ عدوان يونيو (حزيران) 1967 الذي انتهى إلى هزيمة مريرة وضعت سيناء تحت الاحتلال الاسرائيلي.

وبعد الهزيمة لم تتوقف اتصالات عبد الناصر من أجل تحقيق السلام وهي اتصالات لا تتعارض مع الشعار الذي رفعه من أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، لأنه قام بها في مرحلة من أمجد المراحل العسكرية المصرية التي أعاد فيها بناء القوات المسلحة ودخل بها إلى حرب الاستنزاف التي استمرت ثلاث سنوات وشهرين كبدت اسرائيل خسائر جسيمة يومية تقريباً. وشكل باتصالات السلام مع عناصر السلام داخل اسرائيل ثم مع ناحوم جولدمان الذي كلفت بالاتصال به بعد أن كان قد اتفق مع الماريشال تيتو على أن يوجه له عبد الناصر دعوة لزيارة مصر. وعندما علمت جولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل بالأمر رفضت التصريح له مما دفع إلى خروج مظاهرات شعبية تهتف (إلى القاهرة ياجولدمان.. إلى المطبخ ياجولدا)! ولكن هذه الاتصالات لم تسفر عن نتيجة ايجابية تضع نهاية للمشكلة، ولذا وافق جمال عبد الناصر على قبول مبادرة روجرز التي أتاحت له خلال الفترة الأولى لوقف اطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر التي بدأت يوم 8 أغسطس 1970 أن يدفع بصواريخه إلى الضفة الغربية لقناة السويس استعداداً لاقتحام القناة في خطة العبور.

وبعد خمسين يوماً من وقف اطلاق النار انتقل جمال عبد الناصر إلى رحاب الله وانطوت صفحة اتصالاته مع اسرائيل التي تمت على امتداد 18 عاماً لتحقيق هدف وطني وقومي هو حل مشكلة فلسطين على أساس سلمي، وهي اتصالات لم يكتب لها النجاح لاصرار عبد الناصر أن تكون التسوية عربية شاملة وليست مصرية فقط، وأن تعيد كامل الأرض وحقوق شعب فلسطين، ولأن حكام اسرائيل كانوا وما زالوا يؤمنون بالصهيونية التوسعية التي تهدر حقوق شعب فلسطين وتحاول تثبيت الاستعمار الاستيطاني.