منتصرون وإن خسروا

TT

الذي يذهب لليابان ويرى انحناءهم عند التحية ويلاحظ وداعتهم ورقتهم لا يتصور ان افراداً منهم ـ قبيل هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية ـ كانوا يحقنون بني البشر بجراثيم الأمراض المستعصية والخبيثة ثم يقومون بتشريح الجثث لمعرفة كيف يتعامل الجسم البشري مع هذه الأمراض حتى يستفيد من نتائجها الجنس الياباني.. وهذا ما فعلته منظمة الأبحاث والتطوير التي انشأها الامبراطور (هيرو هيتو) حين ارسلت الدكتور (إيشيمارو) لاجراء هذه التجارب على ابناء منشوريا الصينية التي كانت تستعمرها اليابان.

اليابانيون هادئون ووديعون جداً ولكن هذا الهدوء ستار رقيق لطاقة هائلة من الغضب المكتوم.. تماماً مثل البراكين المنتشرة عندهم والتي تبدو ساكنة سكون الليل البهيم.. لكن حين تنفجر تقذف الحمم واللهب. ولهذا يقال ان الياباني قابل للتعبئة لكنه ـ على خلاف بقية الشعوب ـ غير قابل للتنفيس.

تفجر الغضب الياباني المكنون ـ قبل الحرب العالمية الثانية ـ فاستعمرت جيرانها.. وتحرشت بالصين فهزمتها، وناوشت روسيا فنكدت عليها.. وانضمت ـ حين اندلعت الحرب الثانية ـ الى الفاشية لكن هذه المرة هزمتها اميركا فدكتها دكاً وأحالت بعض مدنها قاعاً صفصفاً، ثم جعلتها تحت الحماية بعد ان كبلتها بالقيود المذلة.. فظنوا ان بركان اليابان قد خمد الى الأبد.. لكنها نفست عن غضبها المكبوت ـ هذه المرة ـ بتفجير بركانها الاقتصادي، فحولت المصانع العسكرية الرهيبة الى مصانع تنتج اجود انواع التقنية وأرقاها.. فهذه شركة (سوني) الشهيرة وفخر الصناعات الالكترونية اليابانية في العالم ودرة تاجها كانت في سابق عهدها مصنعاً ضخماً لمناظير الحرب. حرموا اليابان من التصنيع العسكري، فدبرت لهم بليل قنابل «اقتصادية» فتاكة على هيئة سيارات عالية الجودة والكترونيات فائقة الدقة.. فغزت (الغزاة الأميركيين) في عقر دارهم ونافست منتوجاتهم على الرغم من الضرائب المرتفعة والعراقيل (المرتبة).. ويومئذ فرح الشانئون لأميركا.

من يقرأ عن أوضاع اليابان الجغرافية والمناخية السيئة وشح الموارد الطبيعية لا يصدق أنها اليابان التي تمسك ـ الآن ـ بمقود الاقتصاد العالمي جنباً الى جنب مع (الصديق العدو) اميركا، القليل منا يعرف ان 12% فقط من أراضي اليابان تصلح للزراعة، وان أجواءها لا تسمح ـ في الغالب ـ بالزراعة. ففي الصيف الرطوبة الشديدة وفي الشتاء الأعاصير التيفونية التي اذا هبت واشتدت أهلكت الحرث والنسل. وأما اذا زلزلت الأرض زلزالها ـ عندهم ـ فالدمار والخراب وما عام 1923 عن سكان طوكيو ببعيد، حين دمرها زلزال رهيب فصارت أحاديث ومزقت كل ممزق.

ولا تسل عن إباء الشعب الياباني وأنفته، لقد تجولت ـ خلال شهر تقريباً ـ في أحياء طوكيوية متفاوتة فلم ألحظ متسولاً، وهذا ـ بالطبع ـ لا يكفي للحكم، لكني قرأت وعرفت ممن عاش معهم سنين عدداً انهم لا يعرفون التسول على مستوى الدولة والفرد مهما بلغت الحاجة.. ويذكر كتاب قرأته انه مهما عظمت مصائبها من الكوارث الطبيعية فانها تستنكف عن قبول أي معونة خارجية.

اليابان مثل الأسد.. فيها نعومة فروه وأنفته وكبريائه، ولها ـ مثل الأسد ـ انياب «اقتصادية» حادة قابلة لتغيير (المهمة) عندما يحين وقت التغيير.