من حلب

TT

عمل في حلب اثنان من أشهر صحافيين لبنان: شارل حلو الذي بدأ حياته في المدينة عاملا في احدى صحفها الفرنسية، وسعيد فريحة الذي حملته مجاعة الحرب العالمية الاولى اليها باحثا عن الرغيف فعمل في صحافتها العربية مخبرا بسيطا وانهى حياته عملاقا من عمالقة المهنة وسيد ظرفائها. وطالما كتب سعيد فريحة على مرّ السنين التالية ذكريات حلب، وخصوصا عن صاحب الصحيفة شكري كنيدر. وسوف اتعرف في مونتريال العام 1976 الى ريمون كنيدر الذي كان يصدر جريدة «العالم العربي في كندا». ولم اعرف في حياتي عروبيا صادقا مثله. وتحمل الناس اوطانها في صدورها اما ريمون كنيدر فكان يحمل امته في عينيه وفي فؤاده وفي جوارحه كأنها من دونه سوف تهوي، ولما هوى وحيدا الا من حزن امه، لم يدر احد ماذا فقدنا في من فقدنا.

كان سعيد فريحة يعاني في حلب من أمرين: الطموح والفقر. وبدل ان يسدد ايجار غرفته الصغيرة كل شهر، استأجر مكتبا يستقبل فيه وجهاء المدينة واصبح يهرب من صاحب الغرفة فلا يعود اليها الا بعد التأكد من ان الرجل قد نام. وفي الصباح لا يخرج الا بعد خروج هذا الى دكانه. وبعد ثلاثة اشهر من التهرب قرر صاحب المأجور ان يباغت الصحافي الشاب في مكتبه وامام ضيوفه، وبذلك يحرجه ويخرجه ويجبره على دفع المائة ليرة الهائمة.

ودخل «الخواجا ميشال» المكتب من دون ان يقرع الباب فوجد صحافينا العزيز محاطا بالوجهاء يحادثهم ويضاحكهم بنوادره. ولما رآه سعيد عرف ان الواقعة قد وقعت فهب يعانقه، فدفعه هذا قائلا: «لا عناق ولا بلوط خيو. او بتدفع المية ليرا او بجيب الدرك». فتراجع سعيد فريحة وهو لا يزال يضحك: «روّق بالك يا خواجا ميشال. روّق بالك وخلينا نتفاهم عَ الدفع». فهدأ «الخواجا ميشال» قليلا، وقال، «ايه خيو. هات تفاهم تشوف».

قال سعيد فريحة وهو يتطلع في الحاضرين كأنه يطلب شهادتهم: «الك مية ليرا، مش هيك؟ طيب. دفعنالك بعد اسبوع خمسين، شو بيبقى»؟ فانفرجت اسارير «الخواجا ميشال» وقال بارتياح «بيبقى خمسين». فأكمل سعيد: «وبعد اسبوعين دفعنالك عشرين، شو بيبقى»؟ فانشرح «الخواجا ميشال» ايما انشراح واجاب «بيبقى ثلاثين سيدو». فقال سعيد: «هه. برافو عليك. وكمان اسبوعين دفعنالك عشرين، شو بيبقى». فكاد يغمى على «الخواجا ميشال» من الفرح وهو يقول «بيبقى عشرة». وعندها انتفض سعيد فريحة غاضبا امام ضيوفه وقال: «ولو يا خواجا ميشال، هلق منشان عشر ليرات بتعمل كل هالقصة؟».