مأسسة القبيلة والقبيلة الدولة والبيروقراطية

TT

أبادركم القول بأن هذا العنوان تركيب متنافر وعبارات مقلوبة وألفاظ مراوغة بلا شك، ولكن ليس فيه مغالطة ولا مبالغة ولا استفزاز لأحد، وانما هو ترجمة صادقة وتجسيد حي لواقع معيش يقيم فيه المواطن العربي تقابلا حادا بين قبيلته ودولته. هو التمزق كله، والانفصام كله، انتماءات متعددة، وولاءات هشة وتكريس لتقاليد بالية لفظتها الشعوب منذ زمن، وتغليب ظالم للمصلحة الفئوية على حساب المصلحة العامة في عصر اتجهت فيه الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والمصلحة العامة الى الذوبان وفقد السيادة الطوعي لصالح دولة المستقبل، الدولة العالمية، دولة الانسانية جمعاء، ونحن في تخبط وضياع وعجز حضاري تام عن بلوغ المعنى وتحقيق الهدف في تشكيل الوطن وصوغ المواطنة.

كنت اعتقد ان عصر انسجام المتناقضات العربي قد ولى وانتهى، وان العربي يعيش ذروة جدله الحضاري بفضل نضاله القومي وتنافسه الاقليمي وتفاعله الاممي، وان التثوير للتغير وحركات الاصلاح والتجديد والتجارب المستجلبة استطاعت بناء الكيانات القطرية وفق منطق الدولة الحديث، وبيروقراطيتها الشاملة وعقلنة العلاقات الاجتماعية، وبشكل شامل وفاعل. إلا اننا والحقيقة هذه لم نفلح في التأطير السيادي للدولة، او تكريس الهوية الوطنية لدى الافراد، ولم تجد أي محاولة لاقناع الفرد العربي للتخلي عن ولائه المتجذر لجماعته المستقلة، بعيدا عن الدولة ومؤسساتها.

باختصار شديد وصراحة مرة لقد اخفقنا بصياغة مفهوم المواطنة كما يعيشه الآخر منذ قرون، فحركات الاصلاح والتجديد في عالمنا العربي قلبت المعادلة في غمرة التحويل الشامل، والتمازج والاندماج القسري فأصبحت الهوية علاقة اولية. علاقة فرد بقبيلة او عشيرة او طائفة، بدلا من علاقة مواطن بوطن او فرد بمجتمع. ان كل ما جرى ويجري لم ينتج تمازجا جديدا يمركز الهوية حول الدولة الوطن. ما حصل إذن هو احتواء القبيلة للدولة وتغلغل وتجذر عضوي داخل الدولة ومؤسساتها. نكوص على الاعقاب وردة لا مثيل لها في تاريخ وتطور الشعوب قاطبة.

وعليه حتى اليوم لم توجد الدولة العربية الخالصة الولاء الوطني، فإن سلمت الدولة العربية من القبلية والعشائرية وهذا مستحيل بالطبع فلن تسلم من الطائفية والمذهبية الدينية، والتي لا تخفي ولاءها بعيدا عن الوطن الام لأسباب قهرية ومواقف مريبة بحقها وطمس متواصل لهويتها المختلفة. وعندما نتناول هذه الآفة المزمنة والتي هي وليدة البنية العميقة في عقل ووجدان الفرد العربي لا نتناولها بكيانها المتعين المعهود فحسب، بل كتراث وثقافة وسلوك وممارسة عادية استبطنها الاعتباري قبل الشخصي، في تأسيس احزابه وتمثيل منظماته وتشكيل مؤسساته. يترشح باسم القبيلة ويفوز بدعم الطائفة، وتشكل الوزارات وتوزع كجهوية فئوية، لا كحاجة ومطلب وطني. بمعنى اوسع اصبحت الوظيفة العامة رهنا للولاء القبلي والنفوذ العشائري فحسب، وتظل تلك المؤسسات على الحقيقة هياكل ذات تراتب قبلي تتقاسم المكاسب والنفوذ بعيدة عن الهم الوطني وتطلعات المواطن المهمش.

انه فشل ذريع للمنجز الوطني بكل ابعاده الحضارية، وانا اتساءل معكم ما السبب في اخفاق العرب في تأسيس دولتهم الحديثة، الدولة القائمة على المصلحة العامة والمرجعية المؤسسية وسيادة القانون؟

واذا عرف السبب افتراضا هل نستطيع صوغ اشكاليتنا من جديد؟ وهل هناك متسع من الوقت لاعادة التجربة؟ واذا كانت الاجابة «نعم» وانا اشك في هذا، لأن احياء المشاريع النهضوية لا تشكل هماً لأحد، وان وجد هذا الهم لا يتجاوز صداه ابراج النخبة المفكرة، وهم لا يملكون من مقومات التغيير إلا اصواتهم المبحوحة والمخنوقة دائما. المفكرون وعلماء الاجتماع السياسي من عرب واجانب طرحوا السؤال (الازمة) لماذا تطورت الدولة في اوروبا من دولة التجمعات البدائية الى دولة الامبراطور، والى الدولة الحديثة دولة القانون والمؤسسات والمصلحة العامة مقابل دولة الطاغية والقبيلة والعشيرة، ودولة المصالح الضيقة بعالمنا العربي؟

باحثون ومفكرون عرب بارزون منهم اصحاب المشاريع النقدية تصدوا لهذه الاشكالية وقدموا نتائج بحثية مذهلة وخطيرة، وهو ان القبيلة لعبت وتلعب دورا بارزا في السلوك السياسي الجمعي العربي، ومن خلال مؤسساته القائمة، وبشكل يكاد ان يكون عضويا لا انفكاك منه، فهذا احدهم يسجل سبقا رياديا في تشخيص المسألة (الاشكالية) وفق رؤية مختلفة ومنهج تحليلي ابستمولوجي، حيث قدم اطروحته (العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الاسلامي) كيف نكون لأنفسنا نظرية في التاريخ الحضاري؟

بقدر ما تشكل هذه النظرية تكريسا للمسألة العربية (الاشكالية) واستسلاما لها وبقدر ما تعزز دعوى الخصوصية المزيفة الفارغة إلا انها فسرت حالة غائبة او مطموسة او مسكوتا عنها، حيث استطاعت ان ترسم محددات وتجليات العقل السياسي العربي بشكل مقنع وشامل تكاد تكون صادقة بامتياز وغير مسبوقة، وقبل هذا وذاك مبررة ومعززة بمرجعيات ثابتة من تاريخنا العربي. فهو حددها بالثالوث المحكم وهي (العقيدة العامل الايديولوجي) و(القبيلة العامل الاجتماعي)، و(الغنيمة العامل الاقتصادي) ولا رابع لهم.

هذه الدراسات النقدية العادية جعلتنا نربط الفكر بالواقع الاجتماعي العربي التاريخي بدلا من تحليل الخطاب العربي كحوادث متفرقة لا تربطها رابطة ولا تهديها غاية والمرء منا لن يُعدم ضرب الامثلة وجلب الأدلة على صدق هذه النظرية الخلدونية الفريدة.

تاريخنا يعج بالشواهد والنوازل التي اسست لهذه المرجعية القبلية، فمن حادثة السقيفة (سقيفة بني ساعدة) حتى انتخابات اليمن، او الكويت في عصرنا الحاضر، ومرورا بطوائف لبنان، وانتهاء بقبائل الصومال، وعلى ذلك قس في طول عالمنا العربي وعرضه دون استثناء.

التاريخ نقل لنا وبشكل متواتر ما حصل في المجمع الانتخابي الاول بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، عندما اجتمع كبار الصحابة اهل الحل والعقد ليؤسسوا دولتهم ولأول مرة في التاريخ. ما تمت تسويته في هذا المجمع الانتخابي تم وفق استحقاقات قبلية خالصة. والمدهش والمحير حقا ان كبار الصحابة لم يستعينوا بالنص الديني لدعم تلك الاستحقاقات وهو المرجع الذي سيخضع له الجميع او هكذا يفترض على اعتبار ان نصوص العقيدة والشريعة ملزمة، لكن ما حدث هو احضار الشرط الضروري لتأسيس الدولة عند العرب وهو الثقل القبلي الذي حسم الموقف بلا رجعة، كما تقرره تلك النظرية السابقة الذكر. وكان يومها يمثل المعقول السياسي ولم تترسخ بعد الدولة اللاهوتية او أي شكل آخر من اشكال الدولة حينها.

واليوم القبيلة تمارس استبدادها داخل مجتمعاتنا وانظمتنا السياسية وتصوغ لنا رؤى ماضوية مرتكسة في الماضي والى الماضي محدثة خللا كارثيا في مجتمعاتنا المعاصرة ومكرسة لواقع مؤلم يدين المؤسسين الوطنيين الاوائل ورواد النهضة ويحملهم هذه الاخفاقات وهذه التحولات الاجتماعية المخيبة في عصرنا الحاضر. واللافت للنظر ومع ما تتمتع به تلك القيادات التاريخية السياسية والاجتماعية وقيادات الرأي من كارزمية وانجازية، إلا انها لم تحقق المنجز الوطني او على الاقل لم تستطع التنبؤ وتلافي هذه الكارثة رحمة بالاجيال.

ولكن ما موقف الانتلجنسيا العربية من هذا الواقع الذي افرزته تلك التجارب والحركات الفاشلة وهي ترى طموحاتها واحلامها تتهاوى امام هذا الغزو القبلي. بلا شك تضرب كفا بكف، وهي التي كانت تعتقد ان مجتمعاتها قد افلتت من قبضة العوامل الاجتماعية التقليدية والى الابد. اضف الى ذلك انها بالفعل ورطة لم تحسب حسابها النخبة العربية وهي ما فتئت تطالب باعطاء الحقوق ومنح الحريات مقدمة لذلك ثمنا مكلفا وباهظا من عناصرها وسنوات عمرها. وفي النهاية يجير هذا الجهاد لصالح القبيلة وثقافتها. القبيلة التي تركوها في عهدة الماضي تفاجئهم بأنها سبقتهم الى صناديق الاقتراع ومقاعد المجالس النيابية وتقاسم السلطة.

هذه صفعة حضارية مهلكة، ودرس جد قاسٍ جعلنا نؤمن بأن كمون القبيلة وغيابها الهش لا يعني اندثارها ومحوها الى الابد. وما ينطبق على قبيلتنا العربية ينطبق على القبائل الأخرى، والتي تقاسمنا التاريخ والوطن.

بالطبع الانظمة العربية لم تخف غبطتها وسعادتها لهذه النتيجة المخيبة، فعندما ترتفع وتيرة المطالبة باعطاء الحقوق ومنح الحريات يفاجأ المواطن الحر بقطع الطريق عليه بطرح القبيلة والطائفة كبديل لا يمكن منافسته. فتصدق وتشيع مقولة الانظمة العربية. بأن المواطن العربي ما زال غير مؤهل لممارسة حقه الطبيعي، فما بالك بالحق المدني. فيسلم الجميع بالامر الواقع، ويتفقون على تأجيل المشروع، او ادخاله في دائرة المنسي والمسكوت عنه حتى اجل غير مسمى. ولا تعدم الانظمة العربية من يبرر لها ويمجد مشاريعها البديلة والتحمس لها انطلاقا من دعوى الخصوصية الوطنية وانه ليس من الضروري بلوغ الهدف وتحقيق العدالة عن طريق المنجز الغربي فقط، بل هناك تجارب تستحق الممارسة والتطبيق وهي بالتالي ممارسة مستقلة وتجربة خاصة. وهي لا تعدو كونها مجرد مخاتلة وهروب من المنجز الأممي الذي اثبت نجاحه وسعى العالم كله لاستجلابه وتطبيقه دون توان وتلكؤ.

ولكن بعد تخلينا عن نهج التثوير للتغير والميل او الرغبة في الانصات والفهم والتفسير لما جرى ويجري، وبعد اكتشاف تلك البنية والتعرف على محددات وتجليات العقل السياسي العربي هل نسلم ونعتبر القبيلة قدرنا الذي لا مفر منه ونتصرف وفق هذا التنظير المفترض وهو ان المجتمع العربي يتألف من بنية تشكل القبيلة وحداته الاساسية. قد يقول قائل: ولم لا، قد نلج عالم الحريات والديمقراطية وبناء المجتمعات المدنية من بابها الضيق وهو القبيلة، انها مفارقة بالطبع، لكن ليست مستحيلة وقد تتحقق بشروطها.

فوطننا العربي رقعة واسعة واقطار عديدة، وشعوب متمايزة، ومهد حضارات واعراق كثيرة حاول اصحاب الطمس والتذويب القسري من القوميين الرهابيين اصحاب التجارب الفاشلة والممهدين لسيطرة القبيلة العربية لاحقا، حاولوا الغاء من يقاسموننا التاريخ والوطن الذين ما زالوا متمسكين بإرثهم وفكرهم ولغتهم، وهو حق لا يجوز لأحد مصادرته عليهم، عاشوا الخوف والقمع بحجة التعريب والاندماج. وهم الذين استقبلونا فاتحين وتشربوا ثقافتنا طائعين واعتنق البعض منهم او اكثرهم عقيدتنا. فهل نكافئهم بالظلم والجحود، ام نمنحهم حق الاختلاف والمساواة والممارسة الخاصة المتماهية مع الفعل الوطني العام، الذي لا يخرج عليه ولا يذوب فيه. اذا تحقق هذا الشرط وهو شرط التعددية والاختلاف واحترام الآخر نكون حققنا شعار (قبائل وطوائف ومذاهب متعددة ووطن واحد للجميع)، يمارس الجميع اختلافه بطريقة تجعلنا نتقارب ونتآلف بدلا من (كن على صورتي او الغيك بالنفي والتصفية)، ودون ذلك لن نصوغ مفهوم المواطنة ولن نفوز بالنهوض والتقدم او العيش المشترك بسلم وسلام.

* كاتب سعودي