الستراتيجية الديمقراطية العربية

TT

في ما هي عليه «حالة» النزاع العربي ـ الاسرائيلي، اليوم، وما هو عليه «اليأس» الدولي من حلها، لا عجب من تماديها ومن بقاء احفادنا واحفاد الاسرائيليين يتخبطون فيها، نصف قرن آخر ذلك ان اسرائيل حتى لو ضاعفت قوتها وطاقاتها لن تتمكن من فرض السلام على العرب بشروطها، كما ان العرب مهما ازدادت قوتهم وطاقاتهم لن يتمكنوا، كما يخطر للبعض، ولن تسمح لهم القوى العالمية بإزالة الكيان الاسرائيلي بالقوة. ومن هنا، في الاساس كانت «قناعة» الطرفين المعلنة بسلوك طريق الحل السياسي السلمي، لإنهاء هذا الصراع القومي ـ الديني ـ التاريخي ـ الجغرافي ـ السياسي.

ولكن عشر سنوات ونيفاً من المحاولات والاجتماعات والمفاوضات والتسويات، لم تؤد سوى الى تعميق الشعور في نفوس العرب والاسرائيليين بأن السلام الآن مهمة مستحيلة، وان المحادثات والمفاوضات ليست سوى اضاعة للوقت. والسؤال الذي يدور ويدور في رؤوس الجميع هو: ماذا بعد التسليم الاجماعي بأن السلام في الظروف والاوضاع الراهنة اكثر من صعب، بل مستحيل؟ ما العمل؟

هناك، بطبيعة الحال، الراديكاليون، هنا وهناك، المصرون على اعتماد القوة والسلاح والعنف، كوسيلة للتغلب او للصمود. وهناك الواقعيون الذين يقولون بسلام جزئي او منقوص او تدريجي، يبقى في نظرهم افضل من حالة اللاسلم واللاحرب الراهنة، ولكن اكثرية «العاقلين» ما زالوا مصرين على البحث والعثور على تسوية سلمية «معقولة» تعيد الى الفلسطينيين اراضيهم وحقوقهم المشروعة وتوفر للاسرائيليين السلام والامن، ولكنهم يعترفون بعجزهم عن العثور على صيغة هذا الحل الثالث، وعن اقناع المسؤولين العرب والاسرائيليين به، وما جرى في عهد كلينتون ـ باراك في كامب دافيد وشرم الشيخ، وكاد، كما قيل يصل الى تسعين في المائة من الحل، هو افضل دليل على ان هذا الحل او الطريق الثالث للحل اقرب الى السراب منه الى الواقع والحقيقة، اذ ما كاد يلمع من بعيد، حتى تلاشى لمعانه عند الاقتراب منه.

نعم، ان الصراع العربي ـ الاسرائيلي مرشح للاستمرار سنوات وسنوات، ولكن اذا كان الانطباع السائد في العالم هو ان العرب ينتظرون نهاية هذا الصراع ليبدأوا بناء مستقبلهم او اختيار مصيرهم فإن الاسرائيليين لا يفعلون ذلك، بل يخططون لمستقبلهم على ضوء المعطيات المستجدة على العالم في كل الحقول والميادين. وعلينا ان نتوقف طويلا عند ما قاله شارون منذ اسبوعين عن عزم اسرائىل على «استيراد» مليون جديد من اليهود، وعلى بناء صناعات متطورة، التي سوف تغير من طبيعة اقتصادها وتزيد من اعتمادها على نفسها للدفاع عن وجودها. واكيد انه بالغ في زعمه بأن العرب سوف يكونون بعد خمسة عشر عاما غارقين في الفوضى والتخلف، ولكن هذا الزعم قد يصبح حقيقة، اذا لم يدرك العرب، حكاما وشعوبا، ان الصراع العربي ـ الاسرائيلي ليس صراعا تحسمه القوة العسكرية والعنف فقط، بل انه يحسم ايضا عن طريق العلم والانماء والتكنولوجيا والدور الحضاري في عالم الغد.

اننا ندعي بأن ما من انسان عربي عاقل إلا ويقر بهذه الحقيقة الصارخة، ولكن المشكلة هي في العثور على نقطة البداية، هي في التقاط خيط النهضة الحقيقية للأمة العربية، هي في تحديد الاولويات، هي باختصار في رسم استراتيجية عربية شاملة (لا مقتصرة على الصراع العربي ـ الاسرائيلي في حالته الحاضرة)، واعتمادها من قبل الانظمة والشعوب العربية ومن ثم الشروع في تنفيذها.

ان الستراتيجية خلافا لما يعتقد البعض، لا تعني خطة عسكرية او اقتصادية او سياسية فحسب، بل تعني ايضا تجميع كل الطاقات والقوى والامكانات وتسخيرها في خدمة هدف بعيد. والهدف العربي البعيد ربما كان في بدايات الصراع العربي ـ الاسرائيلي منع اليهود من اقامة دولة يهودية في فلسطين ثم الغاء هذه الدولة بالحرب. اما اليوم وقد بات هذا الالغاء بقوة السلاح والحرب صعبا وغير مسموح به دوليا، خوفا من حرب نووية فإن الهدف الستراتيجي العربي الوحيد المتاح هو التفوق على اسرائيل اقتصاديا وعلميا وحضاريا، بحيث لا يبقى لوجودها أي خطر او تأثير سلبي على العرب. وهذا لا يلغي بطبيعة الحال، استمرار النضال من اجل استرجاع الحقوق العربية والفلسطينية بكل الوسائل السياسية وغير السياسية المتاحة.

ومن اهم اهداف هذه الستراتيجية العربية المنشودة تجميد وانهاء النزاعات الداخلية في المجتمعات الوطنية العربية وبين الدول العربية والاسلامية، بل تحويل المجتمعات الوطنية العربية والاسلامية الى كتلة متحدة الاطراف والاهداف. ان من اهم اسباب صمود اسرائيل وتغلبها على العرب هي الانقسامات والنزاعات بين العرب والمسلمين. وان من اهم وسائل واسباب استجلاب رضوخ المجتمع الدولي لمطالبنا هو وقوف الدول والشعوب العربية والاسلامية كتلة واحدة وراء هذه المطالب.

حقائق بديهية، قد يقول البعض وانها لكذلك، ولكن ما الذي يعيق استيعابها والعمل بوحيها وتحويلها الى واقع؟

ان مصير مئات الملايين من العرب والمسلمين تتجاذبه تيارات ثلاثة: الوطنية والقومية والدين. فالشعور الوطني «القطري» و«المصالح» الوطنية القطرية حقيقة لا تنكر، كذلك شعور الانتماء القومي العربي وشعور الانتماء الديني الاسلامي، ولقد تصادمت ولا تزال هذه التيارات السياسية الثلاثة فمزقت مجتمعات عربية واسلامية وولدت عداوات بين الدول العربية والاسلامية وهي تشكل بتناقضاتها خطرا سياسيا على الامة العربية والامة الاسلامية لا يقل عن الاخطار الكبرى. ولا بد لنجاح اي استراتيجية عربية من العثور على حل لهذا الصراع الفكري السياسي المتفشي في الدول العربية والاسلامية، وقد يكون الحل او المخرج من هذه النزاعات، اختيار الديمقراطية كقاسم مشترك بينها، فالديمقراطية بصرف النظر عن اشكالها تتيح المجال لكل التيارات بأن تتجلى وتتنافس لا ان تتعادى وتحاول القضاء على بعضها البعض لحماية نفسها. ليس المطلوب نقل هذا النظام السياسي الديمقراطي الغربي او ذاك، بل اعتماد الاسس والمبادئ والتقاليد الديمقراطية، أي الحرية والمساواة واحترام القانون وحق تقرير المصير ومساءلة الحكومة.

ان الانتصار على اسرائيل في تطبيق الديمقراطية الحقيقية قد يكون سلاحا امضى من القنبلة الذرية اضافة الى انه في حال تقصيره في مقاومة التحدي الاسرائيلي، يبقى ذا فائدة كبيرة للعرب وللمسلمين في ديارهم.