تأملات في تصريحات البابا: التاريخ والعوالم الجديدة.. والإسلام

TT

يصعُبُ تحديد أهداف البابا بنديكتوس السادس عشر من وراء محاضرته بجامعة بون، تحت عنوان: «العقل والإيمان»: هل أراد عرض صورةٍ جديدةٍ وتأويلٍ جديد لتطور «تاريخ» العقيدة المسيحية، بطريقةٍ تجعلُ من التقليد الكاثوليكي صديقاً للحداثة العلمانية من خلال ربط «الإيمان» الكاثوليكي بالفلسفة الإغريقية، التي يعتقدُ هو أنها هي التي أسَّستْ لأوروبا الحديثة؟ إنْ كان هذا مُراده فقد أخطأَ الهدف، لأنّ الإحياء اليوناني في عصري النهضة والأنوار كان الهدفُ منه ذا شُعبتين؛ الأُولى إنسانوية مُعادية للدين تريدُ الاستنصار بالوثنيات الإغريقية على التقليد الكاثوليكي بالذات. والثانية: إعادة تحديد الهوية الأوروبية، باعتبار أنّ الإغريق هم الذين أنشاوا القوميات الأُولى، والدول الأُولى المتمايزة عن الشعوب الآرية والهندو ـ أوروبية الأُخرى. والمعروف أنّ الكنيسة الكاثولكية اختارت منذ مطلع القرن العاشر الميلادي «وربما قبل ذلك كما يقول مؤرِّخو مدرسة الحوليات الفرنسية» الانتماء الروماني، والإمبراطورية الرومانية المقدَّسة. ولذلك لا يتلاقى البابا إنْ كان هذا هدفه مع ماضي كنيسته نفسه!

فهل أراد البابا إذن أن يُحاورَ خصومَهُ من البروتستانت، الذين صارعهم طَوالَ حياته، من طريق القول بأنّ اللاهوت المسيحيَّ واحدٌ منذ صار العهدُ القديم في القرن الثاني الميلادي كتاباً يونانياً «في الترجمة السبعينية بالإسكندرية»، ومنذ وجد العهدُ الجديد صيغةً يونانيةً على يد بولس الرسول كما ذكر هو في محاضرته؟ إنْ كان هذا مُراده فقد أخطأَ الهَدَف أيضاً. لأنّ البروتستانت ما لبثوا أن سايروا الحداثة والعلمانية واليهودية في التخلُّص من الطابع اليوناني الخفيف للعهد القديم، والطابع الهيلليني «الغنوصي» للعهد الجديد. ثم إنّ الكنائس البروتستانتية الكبرى تكادُ تخلو الآن من المؤمنين والأتْباع الذين جرفتهم الإنجيليات الجديدة المندفعة وراء ارتعاشات التجربة المباشرة مع السيد المسيح نفسه، بدون لاهوتٍ ولا كتاب!

وإذا كان البابا لا يخاطبُ الحداثيين الذين ما عاد للدين مكانٌ في حياتهم، ولا البروتستانت والإنجيليين الجُدُد، الذين لا يأبهونَ كثيراً بالمشيج اليوناني القديم أو المتأخر، فمن يخاطبُ إذن؟ لنلخِّصْ محاضرة البابا أولاً ولنحاول فهمها من الداخل، ثم لنعد إلى محاولة تأمُّل مقاصده وغاياته.

يبدأ البابا المحاضرة بتذكُّر نفسِه أُستاذاً للاهوت بجامعة بون عام 1959، حيث كان يلتقي بزملائه البروتستانت، وتدورُ بينهم حواراتٌ حول إمكان التلاقي؛ لأنّ بالجامعة المذكورة كليتين إحداهما للاهوت الكاثوليكي والأُخرى للاهوت البروتستانتي. ثم يختارُ بدءَ موضوعه في العقل والإيمان باقتباسٍ من الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليولوغوس ذكره في معرض مجادلته لعالمٍ فارسيٍ مسلمٍ مفترَض مؤدَّاه أنّ الله سبحانه ذو طبيعةٍ عاقلة، ولذلك فإنّ الإيمانَ بالنسبة له يرتبط بالعقل، وهو يقصِدُ بذلك الإرادة الحُرَّة العاقلة. والبابا، مستنداً إلى عادل تيودور خوري عالم اللاهوت الكاثوليكي المعروف، ذي الأصل اللبناني، والذي نشر جدالات مانويل الثاني أو محاوراته مع المسلمين، يذكر أنّ فكرة لاعُنفية الذات الإلهية، وبالتالي تعقُّلها، آتيةٌ من الفلسفة الإغريقية «اليونانية». ولليونانية معنيان اصطلاحيان. فالتقليد اليوناني في المسيحية هو التقليد الديني الأرثوذكسي، والأرثوذكسية هي دين الإمبراطور مانويل صاحب الجدالات. لكنّ البابا يختارُ المعنى الثاني للاصطلاح بدون مبرِّر: اليونان القُدامى الذين صنعوا التقليد الفلسفيَّ المعروف من خلال الثلاثي المشهور، الذي يذكره البابا خلال محاضرته: سقراط وأفلاطون وأرسطو. وأقولُ إنّ اختيار البابا للمعنى الثاني فيه تحكُّم، لأنّ هؤلاء الفلاسفة ما كانوا مسيحيين، ولا علاقة لهم بتجربة المسيح غير العنيفة؛ في حين أنّ التقليد الدينيَّ الأرثوذكسيَّ مُعادٍ للعنف باسم الدين ـ وقد كان الأَولى به أن يتبناه بدلاً من نسبة عدم العنف إلى تأثير أفلاطون! ولا شكَّ أنّ الإمبراطور مانويل نفسه لو كان حياً وقرأ كلام البابا لتعجب وأغرب ضاحكاً؛ لأنّ العنف الديني الذي أطلقته الكنيسة الكاثوليكية (البابا أوربان الثاني عام 1095م) ضد الشرق الإسلامي، نال أول ما نال بشواظه الأرثوذكسية، إذ احتلّ الفرسان الصليبيون القسطنطينية وظلُّوا فيها مستعمرين لأكثر من خمسين عاماً وباسم المسيح العنيف وليس المُسالم أو العاقل!

بعدها يتابع البابا المحاضرة بعرض تأويلٍ جديدٍ للعهد القديم، خُلاصتُهُ أنه تأغرق «صار حضارياً!» بعد ترجمته لليونانية، فيتجنَّبُ بذلك صورة يهوه العنيفة في التوراة. أمّا يونانيةُ العهد الجديد غير العنيفة فآتيةٌ من بولس الرسول الذي قصد مقدونيا استناداً لرؤيا رآها (مقدونيا اليونانية؟ اليونان القُدامى ما كانوا يعتبرونها كذلك، ويقولون إنّ الإسكندر المقدوني الذي فتح أثينا كان متوحّشاً!)، كما أن يونانية الإنجيل آتيةٌ أيضاً من لغته الأولى المعروفة (ربما كُتبت الأناجيل في الأصل بالآرامية لغة المسيح، أو بالعبرية؛ لكنّ أقدم نُسَخ الإنجيل كما انتشر في العالم مَصُوغةٌ باليونانية، وتعود إلى عام 225م)، والذي تبدأُ إحدى نُسَخه القانونية بالعبارة المشهورة: في البدء كان الكلمة «اللوغوس»، وكان الكلمة الله. وهنا يوحّد البابا بين الألوهية والكلمة «أي المعرفة» والنوس «أي العقل». وما اجتمعت الفلسفة الأفلاطونية المُسالمِة والمعرفة والعقل إلاّ في مقدونيا على يد بولس الرسول؛ ولذلك فإنّ المسيحية ما «تحضَّرت» في المشرق حيث ظهرت، بل في أوروبا؛ ومن هنا تأتي الهويةُ المسيحيةُ لأوروبا التي تبادلت التكوين والصناعة معها: المسيحية أوروبية، وأوروبا مسيحية! وأحسبُ أنّ هذا التفسير المبتكَر للطرفين: المسيحية وأوروبا كان سيسُرُّ الشيخ ابن تيمية صاحب الكتاب الجدالي الكبير ضد المسيحية: «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح»، والذي قال فيه: «ما تنصرت الروم (والروم في الاصطلاح القرآني والعربي هم البيزنطيون اليونان)، لكنّ النصرانية تروَّمتْ»! كما أنه سيسُرُّ أو سَرَّ ولا شكَّ الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان، الذي ترأس لجنةً صاغت الدستور الأوروبي الميّت، وكان في مقدّماته أنّ الهوية العميقة لأوروبا مسيحية (وهذا لا بأس فيه)؛ ثم رتّب على ذلك أنّ تركيا المسلمة إن دخلت الاتحاد الأوروبي فإنّ ذلك سيُفسدُ الهوية المسيحية الخالدة فساداً لا صَلاحَ بعده! وهذا هو رأْيُ البابا الحالي الذي ذكره قبل ثلاث سنواتٍ في خضمّ نقاشات ذاك الدستور، وكان وقتَها ما يزالُ رئيساً لمجمع العقيدة أو الإيمان بالفاتيكان، واسمُهُ الكاردينال جوزف راتسينجر. ويزعُمُ الأتراك أنّ حُبَّه المفقودَ لهم يعودُ لأيام مطرانيته على ميونيخ، واستغرابه للباس نساء العمّال الأتراك أو لحجابهنّ!

بعد الترابط الذي استنتجه البابا بين العقل اليوناني والمسيحية وأوروبا، ينصرف لقراءةٍ شخصيةٍ بعض الشيء للتاريخ اللاهوتي، وصورة الله التي يفترضها في المسيحية. فاللاهوت الكاثوليكي «الأصلي» هو لاهوت اللوغوس أو لاهوت العقل والإيمان (باستثناء قلةٍ نادرةٍ لا حُكْمَ لها مثل دونز سكوتوس). وهو يذكر بين أركان ذاك اللاهوت أوغسطينوس وتوما الأكويني. وأوغسطين أفلوطيني غنوصي فعلاً. وليس الأمر كذلك مع توماس إكويناس. فتوما الأكويني الذي صنع اللاهوت السكولائي «المدرسي» للكاثوليكية، أخذ الخلطة اللاهوتية من الغزالي في مواجهة ابن رشد. وفي تلك الخلطة دخل اليونان «أرسطو بالذات» دخولاً تنظيمياً من طريق إقامة اللاهوت (علم الكلام عند المسلمين) على المنطق الصوري. فالصوفية المسيحية صوفيةٌ أفلاطونية وأفلوطينية، أمّا اللاهوتُ الرسمي، شأنه في ذلك شأن علم الكلام لدى المعتزلة والأشاعرة، فهو قائمٌ على منطق أرسطو. وقد يكون هذا هو المقام الصحيح لقراءة «صورة الله العاقلة» عند البابا، الذي هو في الأصل أستاذ لاهوتٍ كاثوليكيٍ كبيرٍ فعلاً؛ ولذلك يجبُ تتبُّعُ تأويله اللاهوتي للتاريخ المسيحي الوسيط بعناية.

في المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية لاهوتان، وكذلك في الإسلام واليهودية. أمّا في البروتستانتية فهناك لاهوتٌ واحد. اللاهوتان هما إذا صحَّ التعبير: لاهوتُ الرحمة والعناية والفضل، ولاهوتُ التنزيه والعدل. وهذان التياران موجودان في اليهودية والإسلام أيضاً ؛ في حين أنّ البروتستانتية لا تعرفُ غير لاهوت الرحمة والنعمة والاصطفاء؛ الذي يتخذ سمةً متشدّدةً مثلما هو لدى بعض اللاهوت اليهودي. وسنعود لذلك لاحقاً. يعني هذا بعبارةٍ أُخرى أنّ صورة الله عزَّ وجلَّ لدى القائلين بالرحمة والفضل هي صورةُ الحرية المتبادَلة، وفيها أنّ الله سبحانه منزَّهٌ تنزيهاً مطلقاً عن الشَبَه بالبشر، وعن الخضوع لمقاييسِهِمْ «كلُّ ما خَطَر ببالك، فالله بخلاف ذلك»؛ لكنه رحمةً وتفضُّلاً منه أرسل الرسالات، واختار العناية بسائر الكائنات التي خَلَقَها، ولا إلزامَ له بذلك إلاّ بما سمَّى به نفسَه، من ضمن مشيئته وقدرته وإرادته، وحسبما اقتضته حكمته واقتضاه تفضُّلُه، ومقاصدُهُ التي لا تُدرَك. وفي مقابل هذه الحرية المطلقة لله، هناك الحرية النسبية للإنسان بين الإيمان والكفر، والصلاح والفساد، مع وجود النصوص أو التعاليم التي تُبيّن لهذا الإنسان طريقي الخير والشرّ، وعواقب اختيار أحد الطريقين. لكنْ في هذا اللاهوت شيئٌ من الجبرية «من خلال القضاء والقَدَر»، وشيئٌ من الاتكالية «تبقى في نطاق عناية الله ورحمته مهما فعلْتَ». أمّا في اللاهوت الآخَر، لاهوت التنزيه والعدل، والذي سميناه لاهوتَ الالتزام المتبادَل؛ فإنّ الله والإنسان كلاهما يتمتّعُ بالحرية؛ لكنهما مثقلان بالالتزامات المترتبة عليهما: على الله الالتزام بما أَلزمَ به نفسَهُ (يسمّيه المعتزلة الوعد والوعيد)، فليس من العدل أو التنزيه أن يهدي الله إنساناً دون آخَر، ولا أن يرحم مذنباً، أو لا يُثيبَ مؤدّياً للفرائض والتعاليم. على الله الالتزام بوعده ووعيده ولا يستطيع الإخلالَ بذلك أو تنتفي صورةُ الأُلوهية عنه. وفي المقابل الإنسانُ هو الذي يخلُقُ أفعالَهُ التي لا علاقة لها بالقضاء والقَدَر، وهو لذلك مسؤولٌ مسؤوليةً كاملة. وهكذا فالإيمانُ نعمةٌ ورحمةٌ وتفضُّلٌ من الله لدى أهل لاهوت الرحمة، وواجبٌ وحقٌّ لدى أهل لاهوت التنزيه والعدل. والنعمةُ والرحمةُ والعناية تتخذ أبعاداً كبرى لدى المتكلمين اليهود بحيث تصل إلى اختيار الله لهم شعباً وديناً وليس أفراداً، والاختيار والاصطفاء والاتّخاذ قويٌّ أيضاً لدى البروتستانت لكنه فردي. وفي المقابل يبلغ لاهوت الواجب أحياناً لدى المعتزلة وبعض الكاثوليك والأرثوذكس حدود وضع الله في ضبطيةٍ عقليةٍ محكمةٍ تُجاه الإنسان بالذات: يجب على الله كذا، ولا يجوز له أو عليه كذا! بيد أنّ مسألة الوجود الإلهي المتعالي في الديانات الإبراهيمية فرضت مشتركاتٍ رغم اختلافات اللاهوتيين. إذ لا بد من تصور إمكان قيام علاقةٍ بين الطرفين: الإلهي المتعالي والمتفرّد من جهة، والإنساني من جهةٍ ثانية؛ ولذلك كانت هُوامات الصوفية والقبالة والغنوص، والتي ما استطاع اللاهوت الرسمي قبولها؛ لأنها تتجاوزُ كلَّ المؤسسات الدينية وتُلغي الكهنوت بادعاء وحدة الوجود أو الحلول أو الصلة المباشرة بين الله والإنسان خارج القناة «القانونية»: النبوات والكتب، وفي المسيحية: تجاه تجسُّد الله نفسه! ولذلك قال المتكلمون المسلمون بقياس الغائب على الشاهد، وتبعهم في ذلك المتكلمون اليهود، واللاهوتيون الكاثوليك وإلى حدٍ ما الأرثوذكس. وقياس الغائب «الله» على الشاهد «عقل الإنسان وقيمه وإدراكاته» يعني إقامةَ صِلَةٍ من نوعٍ ما بين المطلق والنسبي من خلال صفاته بالقدرة والعناية «لدى الأشاعرة والكاثوليك»، ومن خلال أفعاله بما يسمُّونه اللُّطف، لدى المعتزلة والمتأثرين بهم من المتكلمين اليهود والأرثوذكس. ما فائدةُ هذا الاستطراد كلّه؟ فائدتُهُ أنّ البابا يتحدث عن اختلافٍ في صورة الله بين المسيحيين وغيرهم من أتباع ديانتي التوحيد، وبخاصةٍ الإسلام، لأن اليهودية تجاوزت «ُنفية» يهوه بالدخول في الميراث اليوناني العقلاني أيضاً. وهذا تأويلٌ للتاريخ اللاهوتي لا يعرفُهُ غيرُه، وقد لا يقولُ به غير قداسته. فاللاهوتُ الكاثوليكي الوسيط مَبْنيٌّ كلُّهُ على المباني التي عرفها المتكلمون المسلمون، وأَدخلوا فيها الكاثوليك واليهود، وإلى حدٍ أقلّ الأرثوذكس والسريان، لأنّ الفرقتين الأخيرتين عرفتا الميراث اليوناني والمنطق اليوناني قبل المسلمين. وقد هربت الكاثوليكيةُ فالأرثوذكسية من الأفلاطونية إلى نصف أرسطية خوفَ الغرق في الغنوص الذي كافح ضدَّهُ آباءُ الكنسية الأوائل ووقع فيه أوغسطين وغيره وما كادوا يخرجون منه، ولولا المؤسَّسةُ الكَنَسيةُ القائمةُ سلطتها على سلطة الدولة أو بموازاتها لصارت الكاثولكيةُ بالذات ديناً غنوصياً آخَر مثل غنوصيات الأزمنة الهيللينية. فالتجربةُ مع الإغريق في اللاهوت الأفلوطيني والأرسطي هي تجربةٌ مشتركةٌ بين الديانات التوحيدية، ولا ينفرد بها المسيحيون الأوروبيون أو الكاثوليك بالذات الذين أخذوها عن المسلمين أو شاركوهُم فيها! وهكذا فالعقلنةُ في المسيحية عقلنةٌ محدودة وتتركّز في المؤسسة التنظيمية والسلطوية، وليس في اللاهوت المدرسي، الذي ظلَّ مشتركاً بين الإسلام والمسيحية واليهودية (لاهوت موسى بن ميمون يميل للأشعرية. لكنْ في السنوات الأخيرة جرى اكتشاف عدة نصوص معتزلية كانت متداوَلة لدى الفِرَق اليهودية في بغداد ومصر والأندلس). فمن أين أتت الخصوصيةُ المسيحية المستنيرة التي يتحدث عنها البابا في صورة الله، والتي يُدْخِلُ فيها اليهود، ويُخرجُ منها المسلمين؟ ليس من اللاهوت الكاثوليكي بالتأكيد، وليس من تاريخ الكنيسة بالتأكيد؛ بل من التجربة الإنسانوية الأوروبية في القرون الأربعة الأخيرة، والتي صارت عالميةً عبر مقولة «الحق الطبيعي» للإنسان. وبهذا المعنى تغيرت صورة الإنسان، وصورة العالم، فتغيرتْ صورةُ الله لدى البابا بعد نضالٍ فاتيكاني وبابوي في الإصلاح المضادّ، استمرَّ على مدى ثلاثة قرون! والحداثة التي دخلها البروتستانت وبعض اليهود قبل الكنيسة الكاثوليكية، هي التي أعادت طرح كلّ هذه المسائل، واضطرّت المؤسسة الكاثوليكية الصلْبة والمتضائلة حتى مطالع القرن العشرين للدخول والمنافسة من جديد، مستفيدةً لإعادة التموضع داخل العصر من سلبيات راديكاليات الإنسانويين غير الإنسانية!

II

.. ويباشرُ البابا معالجة مسألة الأزمنة الحديثة أو نقد الحداثة قبل الوصول إلى الخاتمة والاستنتاجات. وهو يرى أنّ المَعْلمَ الرئيسيَّ فيما يتعلق بالتفكير الديني خلال أربعة قرون وحتى القرن العشرين، كان ما يزال: نَزْع الهلْينة، أو تجريد اللاهوت والفكر الديني المسيحي من التأثيرات الفلسفية اليونانية عليه. و قد مرت العملية حتى العصر الحاضر بثلاث مراحل.

في المرحلة الأولى مرحلة عصر الإصلاح «البروتستانتي»: يقول البابا إنّ الغرضَ من وراء ذلك كان العودة إلى سذاجة وحرارة الإيمان، بالاستناد للنصّ نفسه مجرَّداً عن أغطيته الفلسفية. وقد دخل في ذلك ليس اللاهوتيون فقط؛ بل والفلاسفة من أمثال عمانوئيل كانط الذي أراد أن يضع الفكر الفلسفيَّ جانباً، ليفسح المجال للإيمان.

وفي المرحلة الثانية مرحلة اللاهوت الليبرالي التي امتدَّت حتى القرن العشرين ظهر لاهوتيون كبار مثل أدولف فون هارناك تابعوا تلك العملية وأسَّسوها على مقولة باسكال في التفرقة بين إله الفلاسفة، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وتابع البابا قائلاً إنّ هارناك أراد استرجاع حرارة الرسالة الأولى للسيد المسيح التي غرقت في خضمّ التدقيقات اللاهوتية والتفلسُف الهيلليني. وزاد الأمرَ راديكاليةً دخول عصر التصنيع وزمان التكنولوجيا حيث صار الهمُّ الوصول إلى اعتبار اللاهوت عِلْماً؛ استناداً إلى إدخالِه في «علم التاريخ» من جهة، وإلى قياس دقّته وعلميته، ودقة العلوم الإنسانية الأُخرى، على دقّة العلوم البحتة والتطبيقية. ولأنّ اللاهوتَ المتّصل بالإيمان ليس بالأمر الذي يمكن إخضاعه للتجربة؛ فقد أُخرجَ سؤالُ الله عملياً من المجال العلمي الحيّ والمتطور؛ وصار الدينُ يُدرَسُ باعتباره نظاماً وضعياً.

ثم دخلت المرحلةُ الثالثةُ في نزع الهلْينة، وهي المرحلةُ المُعاصرة، في عصر التعددية الثقافية. وفي هذا المرحلة قيل إنّ التهليُنَ المسيحيَّ تمَّ في أزمنةٍ سالفة، وفي ظروف منقضية. ولذلك ينبغي السماحُ للمسيحيات والمسيحيين الجُدُد أن يمارسوا شخصياتِهم وظروفَهم وسياقاتِهم كما مارسَها المتهلينون في أزمنةٍ سالفة؛ بحيث يُنتجون دينَهم الخاصّ المتلائم مع تقاليهم الثقافية الخاصّة في زمان التعددية. والبابا يرى في ذلك شذوذاً وانعداماً للمعقولية. فالهلْينةُ بالنسبة للمسيحية ليست غطاءً مُستعاراً يمكنُ نزعُهُ؛ بل إنها صارتْ جزءًا من الإيمان المسيحيّ نفسه.

ويختم البابا المحاضرة عن «العقل والإيمان» بالدعوة إلى العودة للعقل الفلسفي، وليس الاكتفاء بقصْر العقل والمعقولية على منتجات التجربة المباشرة ومقاييسها. وهو يرى أنّ ذلك لا يعني التنكر للتكنولوجيا أو لعصر الأنوار قبلها؛ بل البناءُ عليهما. فلا بُدَّ من تصحيح علاقة العقل بالإيمان، من طريق الاعتراف المتبادَل، والنظر إيجاباً قي تاريخية العلاقة والتقاليد الدينية المختلفة، وبخاصةٍ المسيحية. لا بُدَّ من العودة لتأمُّل كلمة الإمبراطور مانويل الثاني: «الإقدام على التصرُّف بدون معقولية، مُناقضٌ لطبيعة الله».

يحمّلُ البابا المسؤولية فيما آل إليه أَمْرُ الدين إذن لأولئك الذين أصرُّوا على «نَزْع الهلْينة» أو إلغاء اللاهوت منذ القرن السادس عشر. وهو قسّم ذلك في ثلاث مراحل بدءًا بالقرن السادس عشر. يتحمَّلُ البروتستانت مسؤولية المرحلتين الأُوليين، ويتحملُ العلمانيون والتجريبيون التعدديون مسؤولية المرحلة المعاصرة. وهذه مرةً ثانية وثالثة نظرة متفرّدة أو خاصة في فهم تطور التفكير بشأن الدين في أوروبا في القرون الأربعة الأخيرة. والواقعُ أنّ المشكلات المتعلِّقة بالدين والتي طُرحت منذ القرن السادس عشر تتمثَّلُ في ثلاث: علاقة الدين بالكنيسة وعلاقة الكنيسة بالدولة، وعلاقة العقل بالإيمان، وأخيراً منزله الدين في الحياة الإنسانية. الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر وما بعد أثار مسألة علاقة الدين والخلاص بالمؤسَّسة «الدينية»، أي الكنيسة الكاثوليكية. وقد سبقته تمرداتٌ كثيرةٌ على السلطة الكنسية منذ القرن الثالث عشر، الذي انتهت فيه الحروب الصليبية. وقد لجأت البابويةُ في قمعها إلى الاستنصار بجيوش الملوك «المؤمنين»، وجيوش الفاتيكان نفسه. وأكملتْ ذلك بإنشاء محاكم التفتيش. وهكذا فما كان الأَمْرُ أَمرَ نزع الهلْنية، بل هل الدين «أوالإيمان» ممكنٌ بدون المؤسَّسة، وما هي سلطةُ المؤسسة إن كانت؟ وما هي حدودُها؟ البابا يُماهي هنا بين الإيمان والمؤسَّسة، ويعتبر التمرد على المؤسَّسة تمرداً على الدين والإيمان. وقد ثبت خَطَلُ هذه الرؤية. فقد انتصرت البروتستانتية التي أضعفت المؤسَّسة، دون أن يضعُفَ الدينُ أو الإيمان. وما استطاعت البابويةُ في القرنين السادس عشر والسابع عشر أن تُنهي التمرد البروتستانتي بخلاف ما حدث للتمردات السابقة؛ لأنّ الدولة كانت قد انفصلت بالتدريج عن الكنيسة؛ فما عاد بوسعها شنَّ حروبٍ صليبيةٍ في الخارج، ولا فرض سيطرتها بواسطة جيوش الملوك المسيحيين في الداخل الأوروبي. وهكذا ففي المرحلة الأولى ما كان السؤالُ سؤالَ ماهية اللاهوت؛ بل ضرورة المؤسسة «الكاثولكية» لبقاء الدين المسيحي. وقد كانت الكنيسةُ تستخدم النظام اللاهوتي المدرسي لتثبيت سيطرتِها في العالًَم المسيحي، ومن الطبيعي عندما تتزعزعُ تلك السيطرة، أن يتصدع البناءُ اللاهوتي الذي يدعمها أو يعطيها المشروعية.

أما السؤال الآخَرُ، الذي طُرح في القرن الثامن عشر، أو ما عُرف بعصر الأنوار، فكان يتصل بعلاقة الإيمان بالعقل. كان هناك العقلانيون المُلحدون الذين اعتبروا أنّ الدينَ في طريقه للزوال، وأنّ الباقي هُواماتٌ فرديةٌ وشخصية. وقد بلغ هذا النوع من الفكر ذروته في راديكاليات الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر. بيد أنّ المفكرين الجدّيّين من أمثال كانط وهيغل وهوبز ولوك ولايبنتز واسبينوزا ما كانت عندهم أَوهامٌ حول إمكان اختفاء الدين أو الإيمان الديني. لكنهم ما عادوا يرون إمكان استمرار «اللاهوت العقلي» أي تأسيس الإيمان الفردي على البرهان اللاهوتي الأفلاطوني أو الأرسطي. ومن هنا فقد عادوا إلى أُطروحة ابن رشد التي كان المتكلمون واللاهوتيون قد نحّوها جانباً كما سبق ذكْرُه ولصالح اللاهوت المعقلَن للغزالي وتوما الأكويني. قال ابن رشد بحقيقةٍ إيمانيةٍ وأُخرى بُرهانية. الأولى تتعلقُ بعالَم الدين والإيمان، والأُخرى تتعلّقُ بعالم الكون والفساد، أو الحسّ والتجربة. البابا يعتبر ذلك تهميشاً للسؤال الديني، لأنه ما يزال مهجوساً بدور اللاهوت المؤسَّسي؛ لكنه من جهةٍ أُخرى لا يستطيعُ اعتبار ذلك مرحلةً أُخرى في تجريد الدين من أسلحته الفلسفية أو الفكرية. فالواقعُ انّ كانط وهيغل واسبينوزا كانوا بذلك يحمون الإيمان الدينيَّ العميق من شطحات التنويريين الراديكاليين، أمثال هيوم وفويرباخ ونيتشه، وتشددات الحروفيين الإنجيليين، وليس من بقايا الكنيسة الكاثوليكية. وقد أُضيف لذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين، إحساسُ علماء كبار بأنّ الإيمان العلميَّ أو بالعلم (الرياضيات والعلوم الطبيعية) اسقط الحاجة للدين أو للإيمان، وما عادت للدين غير فائدةٍ ضئيلةٍ في المسائل الأخلاقية. لقد تبلورت رؤيةٌ جديدةٌ للعالم في الوقت الذي كانت فيه الكاثولكية ما تزالُ منهمكةً في الدفاع عن سلطة الكنيسة، وليس عن الإيمان الديني.

لماذا يشعُرُ البابا بالجَزَع؟ إنه خائفٌ من تضاؤل دور الدين في الحياة العامة الأوروبية. بيد أنّ التجربة الأوروبية مع الدين في القرون الأخيرة، خاصّةٌ وليست عالمية. وما يجري في الولايات المتحدة وآسيا وأفريقيا شاهدٌ واضحٌ على ذلك. ففي سائر القارات، بما في ذلك بعض أنحاء اوروبا، تمدُّدٌ إيمانيٌّ وثَوَرانٌ دينيٌّ، وليس تضاؤلاً للدين والإيمان. ولذلك فإنّ الحلَّ الذي يقترحُه «إعادة تعريف العقل ودوره» لا يتلاءَمُ والواقعَ المتطوّر. كأنما هو ما يزالُ محبطاً لما كان في حقبة ما بين الحربين، وحقبة الحرب الباردة. لقد تغيَّر الزمان، وما عادت العلمانيات الراديكالية هي المُشكلة؛ بل الديانات الجديدة غير المؤسّسية. والخوفُ مشروعٌ ومبرَّرٌ لهذه الجهة؛ وإن يكن الشكُّ كبيراً في إمكان نجاح المؤسسة الدينية لدى أهل الديانات الثلاث، في العودة لقوتها وعزّها. هناك مُعاناةٌ كبيرةٌ من الإحيائيات والأصوليات المنفلتة من عقالها، والتي لا تشعُرُ بالحاجة إلى أيّ بُعْدٍ مؤسَّسيّ أو انضباطٍ من أيّ نوع. لقد انهار اللاهوتُ المدرسيُّ الكاثوليكيُّ في القرن الثامن عشر نهائياً. كما انهارت المؤسسةُ الدينية لدى اليهود الأرثوذكس بعد أواسط القرن العشرين؛ وكذلك الأشعرية السنية. وتعملقت الإحيائياتُ بدون لاهوتٍ ولا علم كلام. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجهُ الأديانَ الإبراهيمية كلَّها.

وقد أدرك البابا السابق يوحنا بولس الثاني هذا الأمر، فوضع الكاردينال راتسينجر رئيساً لمجمع الإيمان ليُحكِمَ القبضة على الكنيسة الكاثوليكية فلا تتشقّق في عصر التحولات الكبرى. وانصرف هو منذ مطلع الثمانينات إلى مصارعة الشيوعية في أوروبا الشرقية، ومنذ مطلع التسعينات إلى مكافحة الأنظمة الشمولية والمهيمنة الأُخرى، والدعوة للحرية الإنسانية والودّ الإنساني، ومصارعة الفقر والظُلم والأدواء البشرية السارية، ومخاطبة ومحاورة أتباع الديانات الأُخرى، الذين اعتبرهم حلفاء وشركاء في الإيمان، وفي المصير الإنساني الكبير.

أمسك البابا يوحنا بولس بنبض التاريخ وراح يشارك في صُنعه. أمّا البابا الحالي فيريد أن يتموضعَ في أوروبا، طارحاً من جديدٍ الأسئلة التي جرى تجاوُزُها قبل قرنٍ وأكثر. ولا شكَّ أنّ المشكلات الأكبر واقعةٌ اليوم بداخل الكنيسة الكاثوليكية، ليس بسبب هجوم الإنجيليين الجدد والمولودين ثانيةً عليها فقط؛ بل أيضاً بسبب تفاقُم القضايا المحتاجة لحلولٍ منذ ثلاثة عقودٍ ونيِّف. إنها عوالمُ جديدةٌ تُطلُّ عليها البشريةُ جمعاء، ولا تنفعُ فيها لاهوتياتُ الهيللينيين، ولا المُصالحات المقتَرَحة بين العقل والإيمان.

III

يتبيَّنُ من الاستعراض التفصيلي لمحاضرة البابا بنديكتوس السادس عشر وسياقاتها، ليس أنه لا علاقة لها بالإسلام، كما بدا لي لأول وهلة؛ بل أنها معنيةٌ باستعادة أوروبا إلى المسيحية، واستعادة المسيحية إلى أوروبا. وللمشروع نفسِه بغضّ النظر عن صحته وإمكانه وطرائق الوعي به، علائقُ وثيقةٌ بالإسلام، يبدو لأول وهلةٍ أيضاً أنها – أي تلك العلائق ـ غير مباشرة؛ وليس الأمر كذلك. ولكي لا يبقى ما أقصِدُهُ عن العلاقة الوثيقة بين محاضرة البابا والإسلام عرضةً للتأويلات سأبدأُ بترجمة الفقرة التمهيدية التي وردَ فيها ذكر الإسلام في المحاضرة: «.. كنتُ أَقرأُ نشرة البروفسور تيودور خوري من جامعة مونستر لقسمٍ من حوارٍ ربما جرى عام 1391 في الثكنات العسكرية الشتوية على مقربةٍ من أنقرة، بين الإمبراطور البيزنطي العالِم مانويل الثاني باليولوغوس، وعالِم فارسي مسلم في موضوع المسيحية والإسلام، والحقيقة المتضمّنة في كلٍ منهما. وربما كان الإمبراطور نفسه هو الذي سجَّل ذلك الحوار خلال حصار القسطنطينية (من جانب العثمانيين) بين العامين 1394 و1402، وهذا ربما يعلّل سبب ذكِر حُججه بالتفصيل، دونما اهتمامٍ لافتٍ بإجابات العالِم الفارسي. الحوار المذكور يتوسَّعُ إلى ما وراء حدود البُنى العَقَدية في الإنجيل والقرآن، ليركّز بخاصةٍ على صورة الله والإنسان، راجعاً عندما يكونُ ذلك ضرورياً، إلى العلائق بين «الشرائع الثلاث»: العهد القديم والعهد الجديد والقرآن. في هذه المحاضرة أريد أن أُناقش نقطةً واحدة ـ ربما كانت هامشيةً في الحوار المذكور هي سياقاتُ علاقة الإيمان والعقل. وقد وجدْتُ أنه من الممكن أن يكونَ ذاك السياقُ الحواريُّ مفيداً في تأمُّلاتي حول المسألة. في المحادثة السابعة من الجدال بين الإمبراطور والعالِم الفارسي، يعالج الإمبراطور موضوعَ الجهاد «الحرب المقدَّسة». ومن المؤكَّد أنّه كان يعرف الآية القرآنية «2 : 256» والتي تقرّر أنه «لا إكراه في الدين». وسورةُ البقرة التي تَرِدُ فيها الآية هي إحدى السُوَر القرآنية المبكّرة عندما كان محمدٌ ما يزال بدون قوةٍ ونفاذ أمر، وواقعاً تحت التهديد. لكنْ من الطبيعي أن يكونَ الإمبراطور عارفاً بالتعاليم الإسلامية التي تطورتْ فيما بعد وسجَّلها القرآن، بشأن الحرب. ولذلك، وبدون مقدماتٍ تفصيلية حول الفروق في التعامل مع «أهل الكتاب»، والآخرين «المشركين»، يلتفت الإمبراطور إلى محاوره بشكلٍ مُفاجئٍ وقاسٍ طارحاً السؤال الأساسيَّ في العلاقة بين الدين والعنف بشكلٍ عام. يقول الإمبراطور: أَرِني ما هو الجديد الذي أتى به محمد، وسوف تجد أشياءَ كلّها شريرة وغير إنسانية، من مثل أمره بنشر الدين بالسيف. ثم يمضي الإمبراطور شارحاً بالتفصيل الأسبابَ التي تجعلُ من نشر الإيمان بالعنف تصرفاً غير عقلاني. فالعنف لا يتفقُ والطبيعةَ الإلهية، ولا مع طبيعة الروح: لا يحبُّ اللهُ سَفْكَ الدم، والتصرف غير العقلاني مُناقضٌ لطبيعة الله. فالإيمانُ يبزُغُ من الروح وليس من الجسد. بيد أنّ الذين يريدون نشر الإيمان يحتاجون إلى قدرةٍ على الحديث الجيد، والتأمُّل بعقل، وبدون عنفٍ وتهديدات.. ومن أجل إقناع روحٍ عاقلةٍ، لا يحتاجُ المرءُ إلى ذراعٍ قويٍ، ولا إلى سلاحٍ من أيّ نوع، كما لا يحتاج إلى تهديد أي إنسانٍ بالموت. إنّ الحجة البارزةَ في هذا الجدال ضدَّ الإكراه على اعتناق دينٍ ما، أنّ الداعية الذي تصرف بخلاف العقل، إنما يتصرف بخلاف طبيعة الله. ويلاحظ البروفسور خوري معلقاً: بالنسبة للإمبراطور البيزنطي ذي الثقافة الفلسفية الإغريقية، فإنّ هذا الأمر بديهي. أما في تعاليم الإسلام فإنّ الله مُتعالٍ علواً مطلقاً، كما أنّ إرادته ليست مقيَّدةً أو متعلقةً بأي مبدأ آخر بما في ذلك مقاييس العقل نفسه. وهنا عاد خوري للاقتباس من دارسٍ فرنسيٍ معروفٍ للإسلاميات هو روجيه أرنالديز ذكر عن ابن حزم أنّ الأخير ذهب بعيداً في تنزيه الله إلى حدود القول إنّ الله ليس مقيداً حتى بكلمته «وعده ووعيده؟»، وليس هناك ما يُوجِبُ عليه حتى إنزال الوحي وإرسال النبيين. وبمقتضى هذا الفهم فقد تكون عبادةُ الأَوثان داخلةً ضمن نطاق مشيئة الله».

أوردتُ هذا الاقتباس بطوله لكي يكونَ واضحاً ما هو السياقُ الذي تعرضَ فيه البابا للإسلام وللنبي. وقد انصرف مباشرةً بعد ذلك لمناقشة مسألة الإيمان والعقل، وكيفية إحداث المصالحة في أوروبا بين المسيحية والحداثة، كما ذكرتُ في العرض التفصيلي السابق للمحاضرة. وأرى أنّ هناك أربعة أمورٍ تستحقُّ الاعتبار والنقاش في هذا الصدد وهي:

ـ السياق والظروف التي جرى فيها الجدالُ المفتََرَض بين الإمبراطور البيزنطي والعالِم الفارسي.

ـ الموضوعات الواردة في الحوار أو الجدال.

ـ فهم عادل تيودور خوري والبابا لموضوعات الجدال وتداعياتها.

ـ وأخيراً دلالات هذا الاقتباس من جانب البابا في هذه الظروف بالذات.

لجهة السياق والظروف التي جرى فيها الجدالُ أو الحوار بين الإمبراطور والفارسي المسلم، الأَمْرُ واضح. فقد دأَب العثمانيون بعد الاستيلاء على الأناضول في مطلع القرن الرابع عشر، على قضْم ممتلكات الدولة البيزنطية حتى أكملوا الاستيلاء على آسيا الصغرى، والممتلكات الأُخرى بشرق أوروبا والبلقان، وفي الجزر الإيطالية، وما بقي في النهاية غير القسطنطينية التي حاصروها مراراً دون أن يتمكنوا من الاستيلاء عليها. وما كان مانويل الثاني باليولوغوس (واللقب معناه العلاّمة بالكتب) رجل دولةٍ كبيراً؛ لكنه كان مثقَّفاً بالثقافة الإغريقية والكَنَسية، وعارفاً بالإسلام. وفي الحصار الطويل الثاني للقسطنطينية وأنقرة من جانب السلطان بايزيد الاول (1391ـ1402م) كانت هناك فرصة لدى الإمبراطور لمقابلة الكثير من المسلمين من رُسل السلطان، ومن الأسرى، ومن الوسطاء؛ ولذلك فقد يكون ممكناً لقاؤه وجدالُهُ مع عالمٍ مسلمٍ من أصلٍ فارسي. بيد أنّ الدعوى التي أوردَها بشأن نشر الإسلام بالسيف ليست جديدةً على الجدال البيزنطي ضدّ الإسلام، والذي بدأ في القرنين الثامن والتاسع للميلاد ويتضمن أربع دعاوى رئيسية: أنّ الإسلام دينٌ يقول بالقوة في نشر العقيدة، وأنه مستغرَقٌ في اللذائذ الحسية، وأنه يتضمنُ نزعةً جبرية، وأنه استلب العقائد المسيحية وشوَّهها أو قَلَبها رأساً على عقِب. وقد كان بوسع الإمبراطور لو أراد أن يكونَ أكثر إنصافاً، إذ كان يعرفُ أنّ صراعَهُ مع العثمانيين، وصراع العرب مع البيزنطيين من قبل ما كان على نشر الدين، بل كان صراعاً سياسياً وعسكرياً من أجل السيطرة والفتح، وكان يعرفُ ان ذلك ولا شكّ ليس من القرآن؛ بل ومن الممارسة. فحتى عصر الحروب الصليبية كانت أكثرية السكان ببلاد الشام ومصر ما تزال مسيحية، أرثوذكسية أو سريانية، رغم خضوعها للسيطرة الإسلامية على مدى ستة قرون. وكذلك الأمر بالنسبة لسكاّن آسيا الصغرى في عصر الإمبراطور؛ إذ كانت غالبيتُهُم ما تزال مسيحية. لكنه في الواقع ما كان يستطيع الإقرار بالانفصال بين الفتح العسكري ونشر الإسلام، وهو مُحاصَرٌ، ويسمعُ نداءات الجهاد. وقد أقبل على متابعة الصراع مع المسلمين في جدالياته بعد أن انفكَّ الحصارُ عنه لأنّ تيمورلنك هاجم العثمانيين وقتها آتياً من الشام، ومن آسيا الوسطى، وانتهى الأَمْرُ بهزيمة السلطان بايزيد وأسْره من جانب تيمورلنك، وإطالة عمر الدولة البيزنطية خمسين عاماً إلى أن سقطت القسطنطينية أخيراً بيد العثمانيين عام 1453.

إنّ الأخطَر في جداليات مانويل الثاني ضد الإسلام ربْطُهُ بين العنف باسم الدين، وبين «صورة الله» في الإسلام. العنف من وجهة نظره ضدّ العقل، والله عقلٌ أو نوسٌ أو لوغوس، بالمفهوم الأفلاطوني أو الأفلوطيني، والذي يعتبرُهُ مانويل الثاني (وعادل خوري والبابا) جوهر الدين المسيحي أيضاً. والواقع أنّ في الأمر ثلاث مغالطات أو إسقاطات: فالعنف في نشر الدين ليس غريباً عن الميراث الديني البيزنطي (تجاه البلغار والشعوب السلافية والمتوسطية الأُخرى)، ثم إنَّ الحرب ليست جزءًا من صورة الله عز وجلّ في الإسلام. أما الإسقاطُ الثالث فيتعلقُ بالبابا بنديكتوس؛ إذ عندما توردُ اقتباساً فلأنك توافق عليه أو تريد الردَّ عليه؛ فهو ما ردَّ عليه؛ لذلك فقد يكون قصده أن الخيار الإسلاميَّ خيارٌ عنيفٌ وغير صالحٍ لما هو بصدده من توفيقٍ بين الدين المسيحي والحداثة في أوروبا، ومن صورة الله إلى الجهاد العنيف.

وهكذا فإنّ الخَطَل في فهم الأمر كلِّه، لا يظهر لدى الإمبراطور المُحاصَر من جيوش إسلامية في مطلع القرن الخامس عشر؛ بقدر ما يظهر لدى البروفسور خوري والبابا بنديكتوس في مطالع القرن الواحد والعشرين. هناك موضوعاتٌ ثلاثةٌ تستحقُّ المعالجة في هذا السياق: صورة الله عز وجلّ في الإسلام، ومعنى الجهاد قديماً وحاضراً، وصورة الجهاد والإسلام في الظروف العالمية الراهنة. وفي هذه الأمور الثلاثة أخطأ الرجلان الكبيران. فالذاتُ الإلهية المتساميةُ والمتعالية والمنزَّهة في علم الكلام الإسلامي تقصدُ إلى الإطلاق، ولا تقصدُ إلى اللامعقولية. وهذا معروفٌ ليس في علم الكلام الإسلامي فقط؛ بل وفي اللاهوتين اليهودي والمسيحي بكافة تياراته. وقد استُخدم الميراثان الأفلاطوني والأرسطي لدى اللاهوتيين المسيحيين للإمعان في التنزيه؛ لأنّ العهد القديم يعرضُ صورةً حسيةً عنيفةً لله، ولأن الإله تجسَّدَ في المسيحية. والبروفسور خوري والبابا عالمان لاهوتيان كبيران في الدينين المسيحي واليهودي، والبروفسور خوري يدرّس الإسلاميات منذ أربعين عاماً، وله عشراتُ الكتب في صورة الإسلام قديماً وحديثاً. ولذلك يصبحُ عجيباً أن لا يجد غير اقتباس عن ابن حزم «بواسطة أرنالديز» للتدليل على «الإغراب» في تنزيه الله عند المسلمين، كأنما ذلك غير معروفٍ لدى المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك بالذات! وكيف لا يعرفُ، وهو المفسِّر الكبير للقرآن، العلاقة بين قوله تعالى: «لا يُسألُ عمّا يفعل وهم يُسألون»، وقوله: «كتب على نفسه الرحمة»؟! ثم كيف يتصل «الجهاد» العنيف بصورة الله التي تُصبح أفلاطونيةً خالصةً لدى المعتزلة بالذات «ذات بدون صفات» الذين يُحبُّهُم البروفسور خوري؟! وما دام الحديث عن القرآن؛ فأين هو الموضعُ في القرآن الذي يُردُ فيه ذكْرُ الجهاد أو الحرب مجرَّداً وليس لردّ اعتداء، وأين يَردُ ذكْرُ الجهاد على أنه لنشر الدين الإسلامي أو فرض اعتناقه على المغلوبين؟! ويُعلِّلُ البابا ـ تبعاً لتيودور خوري ـ اتّهام الإمبراطور للمسلمين بنشر الدين بالعنف رغم مخالفة ذلك للآية القرآنية؛ بأنّ الآية نزلت في ظروف ضعف النبي، وأنّ الإسلام شهد تطوراتٍ بع ذلك سجَّلها القرآن تغيَّر فيها هذا الحكم: :(افلا يعلم البروفيسور خوري وهو المفسر الكبير للقرآن ان اية الاكراه في سورة البقرة ، والسورة المذكورة هي من السور المتأخرة وانزلت عام 625 ميلادية ، اي عندما كان النبي في اوج قوته بالمدينة). فأين هي التدويناتُ القرآنيةُ المتأخرة التي تقولُ بنشر الإسلام بالسيف؟ أنا أفهمُ أنَّ مانويل الثاني كان يعتبر جدالياته جزءاً من الدفاع عن نفسه ودولته في مواجهة المسلمين الهاجمين عليه، وإنْ ليس باسم الدين؛ لكنني لا أفهمُ هذه التسْويغات للاهوتيَّين الكبيرين في القرن الحادي والعشرين!

ولنأْتِ إلى الظروف والدلالات. فمنذ مطالع التسعينات من القرن الماضي تتضخم مصائرُ أطروحة «صراع الحضارات»، ويقول هنتنغتون وآخرون كثيرون إنّ الإسلام يملكُ حدوداً أو تخوماً دموية. وبعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 صار الإسلام مشكلةً عالميةً باعتباره يملك تياراً أصولياً قوياً يقول بالعنف «تحت اسم الجهاد» وعلى مستوى العالَم. وفي الأسابيع الأخيرة استعمل الرئيس جورج بوش مراراً تعبير «الفاشية الإسلامية» بدلاً من «الجهادية الإسلامية». وقد عمل البروفسور خوري طوالَ العقود الأربعة الماضية على تصحيح النظرة للإسلام في أوروبا والغرب، وفي أوساط الكنيسة الكاثوليكية بالذات. وعُرف عن البابا السابق يوحنا بولس الثاني وعيُهُ الكبير لهذه المسألة؛ ولذلك ففي الوقت الذي كان يُدينُ فيه حروب أميركا بالعراق وفلسطين وأفغانستان؛ كان يُصرُّ على محاورة المسلمين، وعلى اعتبار أنّ طبيعة العلاقات بين المسلمين والمسيحيين هي التي ستقرر مصائر العالم. وليس هذا وعيَ البابا الحالي فيما يبدو. ليس لأنّه مُعادٍ للإسلام؛ بل لأنه يملك رؤيةً انكماشيةً هدفُها استعادةُ أوروبا وتحْصينُها بالإيمان المسيحي. لقد حَيَّدَ البابا بنديكتوس اليهوديةَ بضمِّها إلى الميراثين اليوناني والمسيحي، ثم انصرف لكسْب البروتستانت والعلمانيين لرؤيته الانكفائية أو الاكتفائية. لكنّ المسيحية دينٌ عالميٌّ كبيرٌ وشاسع. والمسيحيون، حتى الكاثوليك، عددُهم أكبر خارج أوروبا منه في أوروبا كما هو معلوم. ولذلك فإنّ انكماشيته ستزيد من مشكلات المسيحيين الكاثوليك في أوروبا وخارجها. إنّ هذا المشروع المتضائل للفاتيكان يتجلَّى في إقدام البابا على تغيير اسم «لجنة حوار الأديان» إلى «لجنة حوار الثقافات». وهذا تراجعٌ عن نتائج المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965) والتي تضمّنت اعترافاً بالديانات الإبراهيمية وشراكةً معها، وحواراً تعارُفياً مع الأديان الأخرى. وكانت المجلة الفاتيكانية الشهيرة: «إسلامو ـ كريستيانا» التي يُصدرها الفاتيكان قد توقفت أيضاً. وكلُّ ذلك لا يَعِدُ بخيرٍ وانفتاحٍ وتواصُل. فالمشكلةُ ليست في رؤية البابا السلبية للإسلام، بل وفي الانكماش والانطوائية، والتوجُّس من الآخر، وإدخال هذا الدين العالمي الكبير في مشروعٍ وهميٍ هو مشروع أوروبا المسيحية؛ أمّا الذي كان البابا يوحنا بولس الثاني يحاولُ القيامَ به فهو: إقامة عالَمٍ جديدٍ تسودُهُ قيم الحرية والعدالة والسلام، ومكافحة الفقر والجوع والتفاوت الاجتماعي، والتفكُّك الأُسَري

* * * *

قد يكون تقديمُ البابا لمحاضرته بهذه الطريقة عارضاً فعلاً؛ فهي لا تتصلُ بالإسلام أو أنها ليست جدالاً معه أو مُعاداةً له. لكنّ التمهيد للمحاضرة بهذه الطريقة لا يمكن أن يكونَ مصادفة. ثم إنّ المشهد العالميَّ تُجاه العرب والمُسلمين ورؤية الإسلام، مُقبِضٌ ويُثيرُ الرهبة والهمّ. ولن يفيدنا في شيءٍ هياجٌ كالهياج على سلمان رشدي أو الرسوم الكاريكاتورية أو تسليمة نسرين... الخ. فالحاضرُ في المشهد ليس هذا التصريح أو ذاك ضدّ الإسلام فقط؛ بل الحاضرُ ايضاً «غزوات» 11 سبتمبر إلى نيويورك ووشنطن، وهجمات بالي ومدريد ولندن والمغرب والسعودية والعراق وفلسطين ودارفور والصومال ودمشق. ولا أدري أين وأين. العالَم كما سبق القول، يعتبرنا مشكلةً بل مشكلةً كبرى. ولن تنحلَّ المشكلةُ بالشتائم والردود في التلفزيونات، ولا بالمزيد من أعمال العنف والعنف المضادّ. نحن خُمسُ سكان العالَم، وكما لنا حقوق، علينا مسؤوليات. ونحن لا نأخذ حقوقنا، لكننا لا نتحمَّل مسؤولياتِنا أيضاً. لا نريد أن نخافَ من العالم ولا نريدُ أخافتَه. وكما لا صَبْرَ على الخراب الذي لا يتوقف بالعراق وفلسطين ولبنان... وأماكن أُخرى كثيرة، لا صبر على هذه العُزلة المتزايدة عن العالَم وسياساته، والعالَم وثقافاته، والعالَم ودياناته. فلله الأمر من قبلُ ومن بعد.

* كاتب ومفكر لبناني