خطاب البابا: هل نحن محكومون بالقلق؟

TT

بعد يوم واحد فقط، على دعوة أحد الزعماء الدينيين في الصومال، للثأر لنبي الإسلام بقتل أي شخص يتعرض له بالسوء، كان شخصان متحمسان للدعوة، قد دخلا مستشفى للأطفال في مقديشو، يوم الأحد الماضي، وأطلقا النار على راهبة ايطالية كاثوليكية، في السبعين من عمرها وأردوها قتيلة، رداً على كلمات البابا بنديكتوس السادس عشر. وقبل ذلك كان غاضبون قد اعتدوا على كنائس عدة في فلسطين المحتلة في فورة الغضب. ولا ندري ان كان أسف البابا، وتوضيحه ان ما قاله لم يكن رأيه الشخصي، سينهي حالة الفوران التي أججتها محاضرته التي كان يفترض أن تدعو للحوار فإذا بها تتسبب في دوار.

يقول العرب: «الحرب أولها كلام وآخرها اصطلام». والبابا الأوروبي حتى النخاع، لم يعر روح الشرق اهتمامه، فوقع في المحظور. وفي محاضرته الشهيرة التي اورد فيها استشهاده المسيء لنبي الإسلام، ثمة محاولة مستميتة لإثبات أن المسيحية الحالية هي صنيعة أوروبا، وان مفهوم الله فيها هو مفهوم عقلاني يتطابق والفلسفة الإغريقية، على عكس الإسلام الذي لم يكن له هذا البعد العقلاني ـ الفلسفي.

هكذا، بجرة قلم، نلحظ ان البابا الجديد، وبعد سنة ونصف على غياب سلفه يوحنا بولس الثاني الذي جاب الأرض باحثاً عن المشترك والجامع بين الأمم، يتفانى من أجل الدفاع عن فكرة لا تخدم سوى العزلة والتقوقع. ولعل الاعتذار المتوجب تقديمه هو لمسيحيي هذا الشرق الذين يبدو أن البابا لا يراهم بنفس العين التي يرى بها الشقر وذوي العيون الزرق في أوروبا.

ومن المفيد جداً، ان يقدم المستشارون النصح للبابا بنديكتوس كي يخفف قليلاً من مداخلاته اللاهوتية والفقهية، ولو كان اختصاصياً قضى عمره في محرابها. ففي موقعه الحالي لم يعد مجرد باحث صغير، يقدم خلاصات قراءاته على جمهور محدود، فالكاميرات ترصد، والميكروفونات تعمم الصوت. وهو حين يتكلم فإنما يخاطب المسلمين والبوذيين بقدر ما يخاطب المسيحيين. وسيجد البابا نفسه، في كل مرة، في وضع اصعب، لو استمر على هذا المنوال، لأن الفقهيين الإسلاميين، ليسوا ضليعين في اللاهوت المسيحي، ليقيموا مقارنات موازية على الطريقة التي يريد ان يجرهم اليها. وسيبقى يسمع، في كل مرة يحدثنا فيها عن النصوص، ويسألنا فيها عن مفهومنا لله، وهل يتطابق تطابقاً كليا مع العقل، وهو الموضوع الذي يقول انه يشغله هذه الأيام، أجوبة لا تشفي عطشه، وإنما تزعج أذنه وربما تصمها ايضا.

غير مفهومة على الإطلاق رغبة البابا الجديد، في إثارة نقاط اختلاف حساسة بين الأديان تمس الله والإيمان والعقائد، بحجة التقريب بينها، وهو يتحدث في العلن وعلى الملأ، من أعلى منبر كاثوليكي؟

ثمة خطأ جسيم ومريع في الحسابات. فهذه القاعدة المنهجية، تتبع عادة حين تجتمع لجان مصغرة لعلماء كبار وضليعين، من أديان مختلفة يحاولون بناء تقارب في ما بينهم، ويناقش هذا النوع المعقد من الأسئلة على مدى شهور وسنوات. اما اعتبار المقارنة بين مفهوم الإيمان في الإسلام والمسيحية، موضع جدل يشارك فيه عامة الناس، أو سؤال المسلمين عن مفهومهم لله عبر الميكروفونات، وهل الله في الإسلام يقبل العنف أم لا؟ فهو حقاً لمن غرائب فاتيكان هذا الزمان.

من الأفضل ان لا نجادل إذا كانت الاستشهادات المسيئة لنبي الإسلام على لسان الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني، التي أوردها البابا في محاضرته المثيرة للجدل، تعكس رأيه الشخصي، أم هي مجرد استعارة لجأ اليها. فقارئ النص يستطيع ان يرى بنفسه ان البابا، يختم محاضرته بكلام للامبراطور نفسه، ولا يقول في اي لحظة انه يعارض افكاره أو حتى تساؤلاته.

ومع ذلك نقول بأن كل الأسئلة مشروعة، وكل الحوارات يجب ان تكون موضع ترحيب من المسلمين، لكن شرط ان تطرح في الزمان والمكان الصحيحين. والغضب على ما قاله البابا، لم يأت من العالم العربي وحده هذه المرة، بل من بلده ايضا حيث اعتبر احد الصحافيين الألمان ان البابا وضع المسيحية في مواجهة مع الإسلام، واصفا محاضرته بأنها ادخلت الكنيسة في مرحلة تاريخية جديدة. وفي اسبانيا ثمة من اعتبر ان البابا دخل في الرؤيا البوشية الأميركية وما كان له ان يفعل.

تبقى المشكلة الكبرى في ان البابا، من موقعه الشديد الحساسية، حاول ان يقيم مفاضلة بين دينين وايمانين ورؤيتين. ومن يقرأ كلمته كاملة يلحظ انه فعل ذلك، دون أن يخفي مشاعره الخفاقة لأفضلية المسيحية ذات الأبعاد الفلسفية العقلانية التي تنبذ العنف، مطالبا المسلمين بمواقف مماثلة. وهو طرح خطير لرجل كبير في ظرف محتقن وخطير عالمياً. فكل هذا أتى بعد الحرب الإسرائيلية الشرسة على لبنان المدعومة بشكل كامل من أميركا، وفي ظل الأخبار المريعة والمرعبة عن عدد القتلى العراقيين الذين يسقطون يومياً، وفي ظل حملة لا سابق لها على المسلمين المتهمين بالعنف حتى يثبت العكس. وكيفما نظر المسلم فإنه لا يرى نفسه محتلاً لأرض غيره ولا يقصف مواطني دول مسيحية بطائراته، بل هو المحتل والمعتدى عليه، ويطلب الستر والعافية والأمان في ارضه، ثم يأتينا البابا بنديكتوس السادس عشر ليسألنا عن «العنف» و«الجهاد»، ألم يكن من الأجدر عن يكلمنا عن «جهاد» جورج بوش الذي تتسبب رؤاه في ما لا تحمد عقباه.