أهل المقص

TT

من المعتاد لنا أن ننبهر أمام كل هذه المخترعات العجيبة التي تدخل حياتنا كل يوم. ولكنها على براعتها لا تداني بشيء تلك المخترعات البسيطة التي طورها الإنسان في القدم. إنني أفكر مثلا بالعجلة والمنشار والمطرقة والإبرة. ولكنني رأيت أن المقص أعجبها. الغريب أنني تصفحت سائر الموسوعات العلمية مفتشاً عمن اخترع المقص، فلم أهتد. ذكروا أنواع المقص وطريقة صنعه واستعمالاته. ولكنهم لم يقولوا قط من اخترعه. الظاهر انه لا احد يعرف ذلك. حتى إسرائيل لم تدع انه اختراع يهودي. وأمام هذا الانسداد المعلوماتي، خطر لي خاطر. ربما كان الشيطان هو الذي اخترعه وعلمنا عليه.

ذهبت هذا المذهب من استعراضي لاستعمالات المقص. فرغم ما فيه من فوائد واضحة، فإنني وجدت له استعمالات شيطانية خبيثة. بالطبع لا أفكر هنا بالنساء اللواتي قتلن أزواجهن بالمقص، رغم أن المناسبة تقتضي مني أن أنصح أي رجل يتزوج بخياطة، أن يبادر الى انتزاع المقص من يدها، ولا سيما إذا كان من المارقين. كلا ولا أقصد دوره في إشاعة التبرج والخلاعة في المجتمع المعاصر. فلولا المقص لظلت الفتيات يلبسن الفساتين الطويلة ولما عرفن أو سمعن بالميني جوب، مما يدل على الأصل الشيطاني للمقاصيص.

الحقيقة أن ما أود الإشارة إليه هو دور المقص في حياتنا الفكرية. فما الذي كان بإمكان الرقيب أن يفعل بدون وجود المقص؟ أنا شخصيا كواحد ممن كتب عليهم العمل في الصحافة لا أحمل في شنطتي من أدوات غير المقص. إنني لا احمل فيها شوكة أو ملعقة آكل بهما كما ينبغي لأي رجل عاقل. كلا، ولا حتى عصا أضرب بها كل من يكتب هذه الأشعار المطلسمة. لا أحمل في شنطتي مظلة للمطر ولا نظارات ضد الشمس. ولكنني أحمل فيها دائما ذلك المقص الحاد.

أستطيع أن أزاول مهنتي بدون قلم، ولكن ليس بدون مقص. ماذا سأفعل إذا تعرضت للطائفية أو أشرت لنظرية التطور انتقدت القيادات الفلسطينية فشبعت من الشتائم والتهديدات. رويت كيف زرت المتحف المصري ورأيت المطر يخر على المعروضات، فاتهموني بالعداء لمصر. ما كان ذلك خطأ مني في استعمال القلم وإنما هفوة في عدم استعمال المقص.

تجري الآن حملة لإصلاح الدراسة في المدارس. وهذا شيء طال انتظاره. أتأمل أن يبادروا لمعالجة هذه النقطة. فنحن نعطيهم القلم لدرس التاريخ والمقص لدرس الأعمال اليدوية. وهذا عين الخطأ. ما يلزم لنا في أكثر دروسنا هو المقص ليبادر كل تلميذ بقص كل هذا الهراء والخزعبلات التي يأباها العقل وامتلأت بها كتبهم.

وهذا كذلك ما ينبغي أن يتعلمه الكاتب والصحافي، وأعني أن يتقن فن استعمال المقص. ولهذا أقترح على المسؤولين أن يكرموا ضيوفهم من كتاب وأدباء بالمقاصيص الجيدة بدلا من الأقلام الذهبية الأنيقة. أنا أقضي معظم وقتي أفكر لا بما ينبغي أن أقوله وإنما بما ينبغي أن أحذفه ولا أقوله. والموضوع يتطلب تصويبا لغويا. نحن نسمي الكتاب والصحافيين بأهل القلم وحملة الأقلام. يجب أن نسميهم بأهل المقص وحملة المقاصيص.