فشل إسرائيل في لبنان وراء مغازلة واشنطون لطهران

TT

ليس مألوفا أن تبدي إسرائيل انزعاجها من تصريحات الرئيس بوش، فقد أصبحت القاعدة أن تصبح تلك التصريحات المتعلقة بالشرق الأوسط على الأقل مجرد صدى للخطاب الإسرائيلي. وحين يقع الاستثناء فذلك يعني أن شيئا جسيما حدث، ويبدو أننا الان بصدد هذه اللحظة الاستثنائية، الأمر الذي يدفعنا إلى تحري حقيقة الحدث الجسيم الذي افرزها.

إذ يذكر الجميع ربما أن الرئيس بوش أدلى بتصريحات لصحيفة الـ«واشنطون بوست» حول المشروع النووي الإيراني، اظهر فيه قدرا من اللين النسبي إزاء إيران، وتمثل ذلك اللين أولا في انه لم يشر إلى «خيار القوة» في التعامل الأمريكي مع المشروع الإيراني، وثانيا لأنه بدا وكأنه يبعث برسالة غزل إلى الإيرانيين حين وصف بلادهم باعتبارها «دولة عظمى في المنطقة» وحين وجه خطابه إليهم قائلا: «إننا نقدر ونحترم تاريخكم وثقافتكم كما انني أتفهم رغبتكم في تطوير برنامج نووي وأرغب بشكل جاد في إيجاد حل لهذه القضية». ثم أضاف قائلا: «لا حاجة لي ولا رغبة في الدخول في نزاع معكم وأنا أؤيد ضرورة العمل على تطوير برنامج خاص لتبادل المعلومات والثقافة مع إيران».

هذه اللغة اللينة والهادفة أثارت دهشة القادة الإسرائيليين الذين يعتبرون إيقاف أو تدمير المشروع النووي الإيراني هدفا استراتيجيا لهم لأسباب ليست خافية على أحد أهمها أن تظل إسرائيل وحدها القوة النووية، ومن ثم القوة العسكرية الأعظم، في منطقة الشرق الأوسط وهذا الحرص هو ما دفع الإسرائيليين إلى الترويج لمقولة أن المشروع النووي الإيراني يمثل خطرا على العالم الخارجي، في حين انه في حده الأقصى قد يكون خطرا على إسرائيل وحدها من حيث انه يكسر احتكارها للسلاح النووي في المنطقة ومن ثم يخلق وضعا يحقق توازن الردع، الذي هو أكثر ما تخشاه إسرائيل.

فضلا عن ذلك فقد لاحظ الإسرائيليون أن الرئيس بوش هو الذي دعا كبير محرري الـ«واشنطون بوست» ويفيد ايغينشيوس لكي يجري الحوار معه، الأمر الذي استنتجوا منه انه الرئيس الأمريكي أراد أن يوصل رسالة إلى القيادة الإيرانية، وحينما بدا أن الرسالة تضمنت المعاني التي أشرت إليها فإنها رفعت من وتيرة التوجس والقلق لدى النخبة الإسرائيلية، لكن كيف ولماذا؟

عثرت على إجابة شافية لذلك في تقرير نشره الزميل صالح النعامي من غزة على موقعه الإلكتروني في 24/9 الحالي، ذكر فيه «أن الجنرال والوزير السابق افرايم سنيه عضو لجنة الشؤون الخارجية والأمن التابعة للكنيست وأحد قادة حزب العمل بادر إلى إجراء العديد من المقابلات الإذاعية، وطرق أبواب مكتب رئيس الوزراء ووزير الحرب وقادة الأجهزة الأمنية، ليشرح لهم خطورة رسالة الرئيس بوش. ولم يكن وحده في ذلك ولكن عددا غير قليل من المعلقين الإسرائيليين عبّر عن ذات القلق. جميعهم اتفقوا على انزعاجهم الشديد من مغزى ودلالة كلام الرئيس عن الدور الذي يمكن أن تلعبه إيران لتكريس الاستقرار في العراق. واستنتج سنيه أن بوش اصبح مستعدا لغض الطرف عن البرنامج النووي الإيراني مقابل أن تسهم طهران في توفير الظروف التي تسمح لواشنطون بسحب قواتها من المستنقع العراقي. هذا المعنى قاله في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية، حين تحدث عن أن «بوش يريد أن تدفع إسرائيل ثمن أزمته الخانقة في العراق، ولكي ينقذ نفسه وجنوده من المأزق العراقي اصبح مستعدا للتوافق مع إيران حول برنامجها النووي الذي يعد أكبر تهديد وجودي لإسرائيل».

لا يقف الأمر عند هذا الحد وإنما هناك نفر من المحللين الإسرائيليين باتوا يعتقدون بأنه ليس فقط الرهان الأمريكي على دور لإيران في العراق هو الذي يصرف واشنطون للتفكير بعيدا عن الخيار العسكري في تعاملها مع طهران لأن صحيفة «هآرتس» في 22/9 الحالي كشفت النقاب عن أن كبار الصقور في الإدارة الأمريكية لم يعودوا واثقين من أن العمل العسكري يمكن أن ينجح في تصفية أو إحباط المشروع النووي الإيراني. وتحدثت الصحيفة عما وصفته بـ«حلقات فراغ» في المثلث الحديدي الذي يقوده بوش ونائبه تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، إذ ذكرت أن الأخير كان إلى عهد قريب من كبار المتحمسين للخيار العسكري ضد إيران ولكن التطورات الحاصلة على الأرض في العراق فيما يبدو جعلته يشكك في إمكانية نجاح هذا الخيار ضد طهران لدرجة أنه بات مستعدا بقبول فكرة أن تتحول إيران إلى قوة نووية.

في تفسير هذا التحول النسبي الذي يتحدث عنه الإسرائيليون تكمن نتائج العدوان على لبنان وما تخللها من صمود لم يتوقعوه من عناصر حزب الله، فقد تحدث اربيه جولان مقدم البرامج الحوارية الشهير في الإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعبرية عن أن هناك انطباعا عاما في أوساط النخبة الإسرائيلية مفاده أن الفشل المدوي في الحرب الأخيرة ضد حزب الله، برغم التفوق العسكري الهائل الذي تملكه إسرائيل في البر والبحر والجو، قلص من قيمتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، بحيث لم يعد الكثيرون في واشنطون يرون في إسرائيل شرطي الولايات المتحدة في المنطقة. من ناحية أخرى فإن الإحباط الأمريكي من نتائج الحرب كان اكبر بسبب عجز السلاح الأمريكي الذي استخدم في المواجهات عن حسم المعركة لصالح إسرائيل (معروف أن واشنطون قدمت لإسرائيل اكثر من السلاح حيث وفرت لها اكبر فسحة ممكنة من الوقت لكي تحقق أهدافها بتعطيلها إصدار قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار ولم تسمح بإصدار القرار إلا بعد أن يئست من احتمالات الانتصار الإسرائيلي).

أضاف جولان في هذا الصدد أن الولايات المتحدة التي تعتبر حزب الله «فيلقا إيرانيا» أصبحت بعد الفشل الإسرائيلي مترددة في فكرة المواجهة مع إيران مستقبلا، حيث خلصت من خبرة أداء الحزب في لبنان إلى أن مثل هذه المواجهة لن تكون سهلة على الإطلاق.

في سياق مناقشة الموضوع اهتموا في إسرائيل برصد ما أسموه «رسائل الغزل» التي تحاول واشنطون إرسالها إلى طهران في الآونة الأخيرة، فأشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى موافقة بوش شخصيا على السماح للرئيس السابق محمد خاتمي بزيارة واشنطون للمشاركة في العديد من الندوات الأكاديمية، إلى جانب السماح للرئيس الحالي أحمدي نجاد بالوصول الى نيويورك لإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأكدت وسائل الإعلام ان زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لإيران لم تكن لتتم لولا حصوله مسبقا على إذن مسبق من واشنطون للبحث عن مخرج من المستنقع العراقي. ورأى الجنرال زئيف شيف المعلق الاستراتيجي أن كل هذه المؤشرات تقود إلى انطباع مفاده أن واشنطون باتت تؤمن بضرورة انتهاج سياسة الحديث والتفاوض مع إيران «فقط» من دون محاولة التلويح بالقوة والتهديدات التي يبدو أن الإدارة الأمريكية اقتنعت بأنها وسائل غير مجدية في تحقيق الهدف المطلوب.

في الوقت ذاته حذر زئيف شيف من أن مواصلة إيران تطوير مشروعها النووي يمكن أن تؤدي إلى دفع مصر والسعودية على الأقل لخوض السباق النووي، وذلك بحد ذاته خطر كبير. وهي الفكرة التي أيدها الدكتور جاي باخور الباحث في معهد هرتسليا متعدد الاتجاهات، الذي رأى أن وجود السلاح النووي في دولة سنية يمثل خطرا أكبر مما تمثله إيران، حتى إذا كانت تلك الدولة السنية تخضع حاليا لحكم نظام «معتدل». واستند في ذلك إلى أنه في الدول السنية، التي تحيط بإسرائيل، يظل الاحتمال قائما أن تتولى الحكم الحركات الإسلامية التي تنادي بالقضاء على الدولة العبرية. وهذا الاحتمال يمثل «كابوسا» في الظروف العادية، فما بالك إذا وقع والدولة السنية تملك سلاحا نوويا ؟!

الخلاصة أن كلا من سنيه وباخور وشيف، وأمثالهم من المعلقين، اتفقوا على ضرورة أن توظف إسرائيل كل ما تملكه من وسائل وأدوات الضغط على إدارة الرئيس بوش لتغير موقفها، وتثنيها عن مغازلة إيران، لدفعها إلى تبني الخيار العسكري لوقف البرنامج النووي الإيراني. لكنهم في المقابل يدعون دوائر صنع القرار في الدولة العبرية إلى عدم استبعاد احتمال أن تضغط إسرائيل إلى المبادرة بالعمل العسكري من جانبها ضد إيران.