عاجل للعرب: التخلص من عقلية الضحية..!

TT

الصين دولة كبرى، مساحتها تساوي مساحة العالم العربي كله، وعدد الصينيين يزيد عن ثلاثة أمثال العرب (1300 مليون مقابل 300 مليون)، وعلى مدى العقدين الماضيين كانت الصين تنمو وفق متوسط قدره 9%، أما المتوسط العربي العام فقد كان أقل من 3%. ولولا لطف الله ومنحته لبلادنا بالنفط لما كنا قد وصلنا إلى هذا المعدل؛ وخلال الأعوام الأخيرة فإننا لا بد وأن نشعر بكثير من الامتنان والعرفان للهند والصين لأنهما أدخلا قرابة 700 مليون من البشر إلى ساحة الاستهلاك العالمية فزاد الطلب على بترولنا وبلغ سعر البرميل ما زاد على سبعين دولارا فانتعشت الخزائن العربية بعد طول جفاف.

وقصتنا هذا الأسبوع لا علاقة لها بالعلاقات العربية ـ الصينية، ولكن لها علاقة بقدرة أمة عريقة على إدارة علاقاتها الدولية في عالم غير متكافئ. وجاءت المناسبة مع ندوة عقدت في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن حول العلاقات الأمريكية ـ الصينية في الشرق الأوسط، وكان دوري فيها هو عرض وجهة نظر عربية. وكما هي العادة في مثل هذه المناسبات راجعت الأدب المنشور عن الموضوع باللغتين العربية ـ والإنجليزية، وكلاهما أشار بتفصيل شديد للتقدم الاقتصادي الهائل للصين واعتمادها المتزايد على نفط الشرق الأوسط، والذي زاد على 50% من احتياجاتها مقارنة بنسبة 17% فقط بالنسبة للولايات المتحدة. ولكن الأدب الغربي في العموم كان أكثر تفصيلا في طرح التطورات التي جرت في «العقلية» الصينية خلال السنوات الأخيرة، فالقضية لم تكن فقط قفزة في معدلات النمو، وإنما إلى أي حد كان ذلك عاكسا لتفكير جديد حول العالم وموقع الصين فيه. وكان لافتا للنظر أن كافة الدراسات التي قام بها رسميون أمريكيون أشارت ـ ضمن ما أشارت لأمور كثيرة ـ إلى نقطة جوهرية هي أن الصينيين تخلصوا في تفاعلاتهم ـ مفاوضات ومحادثات وتجارة واستثمار وخلافات إستراتيجية ـ من «عقلية الضحية» واعتبروا ذلك ليس فقط واحدا من أهم التغيرات التي جرت للصين، بل لأنها كانت سببا في كل ما حققته الصين من نجاح.

فعلى عكس ما يعتقد كثير من العرب أنهم كانوا وحدهم ضحية الاستعمار والهيمنة الإمبريالية الغربية خلال القرنين الأخيرين فإن الصين تعرضت هي الأخرى، وهي الأمة ذات الحضارة العريقة والتاريخ الطويل في بناء التراث الإنساني، إلى قدر كبير من المهانة والإذلال ربما لم تعرفها أمة أخرى في العالم كله. فلم تجر محاولة تقطيع أوصال الصين وتجزئتها فقط، بل تمت محاولة تحويلها من خلال تجارة الأفيون إلى أمة من المدمنين، وخلال الحرب العالمية الثانية وما قبلها لم يكتف اليابانيون بانتزاع منشوريا بل قاموا بإبادة مدن بأكملها، وجعلوا من الصينيين حقولا للتجارب الطبية. وربما ذاع كثيرا في العالم ما فعله النازيون والفاشيون الألمان والإيطاليون للغجر واليهود والروس من محارق وعمليات للقتل الجماعي، إلا أن ما جرى للصينيين والآسيويين في العموم بقي خافيا على الكثيرين.

كل هذا كان كافيا لكي يشعر الصينيون بامتياز بشعور الضحية التاريخية التي تكالبت عليها قوى بشعة وقاسية، وبعد انتصار الثورة الشيوعية عام 1949 كان هذا التراث جزءا من عملية التعبئة للجماهير للسير وراء الشعارات الماوية. وحتى عندما قامت الصين بثورتها الثانية ـ البيضاء هذه المرة ـ من خلال التحول في السياسات الصينية نحو الرأسمالية بعد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني عام 1978 لم تتغير المشاعر الصينية تجاه التاريخ. وكان طبيعيا في كافة المواجهات واللقاءات الغربية الصينية أن يذكر الصينيون أقرانهم الغربيون بالجرائم الكبرى التي ارتكبوها ضد الصين. وكان الصينيون مثلنا لا يكفون عن معايرة الغربيون «بالمعايير الغربية المزدوجة» والدور الذي لعبوه في تخلف الصين وفقرها، ووضع ذلك كله في سياق الدعوة لإعطاء الصين عددا من المميزات الخاصة سواء في إطار التجمع الاقتصادي الآسيوي – الباسفيكي أو في إطار منظمة التجارة العالمية. وببساطة كانت الصين تفعل ما تفعله كل دول العالم الثالث في علاقتها مع الغرب بحيث تخضعه لعملية من الضغط الأخلاقي للحصول على مميزات اقتصادية وإستراتيجية.

كل هذا – كما قال الأدب الغربي ـ توقف تماما وانتهى عهده، وفجأة تخلصت الصين تماما من «عقلية الضحية» ولم تعد تثير أيا من هذه القضايا، بل أنها ـ وتلك هي المفاجأة الأكبر ـ لم تعد تثير قضية «تايوان» وعودتها إلى الوطن الأم وهي التي كانت أكبر الدلائل على «المؤامرة الكبرى» على الصين أو المملكة الوسطى كما كان يطلق عليها في العصور القديمة. وببساطة فإن الصين قررت أن «اللعب مع الكبار» لا يكون ممكنا إلا بأن تكون كبيرا مثلهم، والكبار في العادة لا يعتبرون أنفسهم من الضحايا وإنما من المنجزين الفائزين المنتصرين. ولو أن الولايات المتحدة عاشت على التاريخ الاستعماري البريطاني، أو أن ألمانيا عاشت على التدمير والتقسيم الذي عرفته من القوى الغربية الأخرى، ولو أن اليابان عاشت على ضربها بالقنابل الذرية، أو أن الهند عاشت هي الأخرى على تقسيمها واستعمارها، لما تمكنت أيا من هذه الدول من أن تكون من دول العالم الكبرى والعظمى. «عقلية الضحية» هنا لها آلياتها الخاصة التي تجعل الضعيف يزداد ضعفا، وفي النهاية فإنها ليست مجدية على الإطلاق لأنها لا تصحح موازين القوى، ولا تعدل في العادة موازين الأخلاق في العالم، وتخلق في النهاية نزعات انتقامية تأكل في روح المجني عليه وتجعله دوما أسير الماضي بأكثر من كونه جزءا من المستقبل وفوق ذلك كله تضيع وقتا كثيرا.

التخلص من«عقلية الضحية» يجعل الطرف المعني ـ الصين هنا ـ أكثر قدرة على فهم تاريخه الخاص، فرغم كل ما عانته الصين على يد الآخرين، فإنها عانت على يد أبنائها ما هو أكثر. ولن ينسى الصينيون الجمود الذي جرى للبلاط الصيني وجعله ـ مثلما جرى للبلاط العثماني ـ غير قادر على منافسة التقدم الغربي. كما لن ينسوا أبدا أن الثورة الزراعية التي قام بها ماوتسي تونج قد أدت إلى وفاة 30 مليون صيني جوعا، أما ثورته الثقافية بعد ذلك ـ وكانت ردا على الفشل الأول ـ فأدت إلى وفاة ومقتل وتعذيب ما هو أكثر. هنا فإن التاريخ لا يصير مكانا ينهل منه لتبرير الحاضر ـ التخلف عن السباق العالمي ـ بل لكي يكون أساسا لوضع كل أنواع الجبر والقهر في مكانها وفق قدرها وتخطيها إلى حيث يكون التقدم الذي يداوي جراح الماضي ويمنعه من التكرار في المستقبل.

كان التخلص من عقلية الضحية هو الأساس الذي جعل الصين تقوم بالتسويات الحدودية مع جيرانها بكرم لم يكن منتظرا من دولة كبرى وبصورة فاجأت الكثيرين في آسيا الوسطى، وعندما لم تصل إلى تسوية فيما يخص حدود وجزر فإنها أعلنت بوضوح أن الطرق السلمية ـ وليس القوة المسلحة ـ هي الأساس حتى في عودة تايوان إلى الصين الموحدة. ومن يراجع موقف الصين خلال الأزمات العربية الأخيرة في فلسطين ولبنان، وموقفها من الأزمة النووية الإيرانية سوف يجد تغيرا كاملا في الخطاب الصيني كان بعضها راجعا لموقفها من الأصوليات الإسلامية أما البعض الآخر فقد كان راجعا لأن طريقة التفكير الصينية قد تغيرت!