آثار العراق: «أمَنْ سرقَ الخليفةَ وهو حيٌ...»!

TT

تسلمت السفارة العراقية بلندن، بحضور وزير الخارجية هوشيار زيباري، قطعتين أثريتين من الآثار المهربة: إناء فخار نقش باطنه بنص آرامي، ومخطوطة للطبيب أبي بكر الرازي (ت 311هـ)، سُرقت من مكتبة أوقاف الموصل سنة 1997. يعود تاريخ نسخها إلى عام (403هـ) وبريشة نساخ يدعى ابن زيد. هذا ما قرأته في الورقة الأخيرة. ويبدو من عنوانها أنها «المقالة الثالثة»، الخاصة بالأغذية والأدوية، من كتابه «المنصوري» ذي العشر مقالات، صنفه للمنصور الساماني أحد أمراء ما وراء النهر. ومعلوم، أن الرازي ترك فن الموسيقى إلى الطب، بعد إقامته ببغداد، حتى أصبح فيها مديراً للبيمارستان، الذي عُرف فيما بعد بالعضدي، نسبة إلى عضد الدولة البويهي (ت 372هـ).

كانت أحزان الدكتور دوني جورج، وهو يجوب العواصم بحثاً عن إناء الوركاء النذري (3500 قبل الميلاد)، شهادة للرجل أنه ما ترك مجاورة ذلك الأثر إلا لمرْزِئة حلت عليه. سمعته يقول عن قيمة الإناء الحجري: «لا يُثمّن بثمن»! وذُكر لي: أن شاباً نهب الإناء، وجعله تحت فراشه، وأخبر أهله أن لديه مال قارون. وبعد ملامة الأهل سلمه لدوني جورج.

تؤكد قصة سرقة مكتبة أوقاف الموصل، وقصة الإناء النذري، وقصصا كثيرة أخرى، ناهيك من أحداث نهب متاحف كركوك والمحافظات الجنوبية عقب حرب1991، ان نهب المتحف العراقي تم بأيدٍ وتسهيلات عراقية. فينقل أن البوابات كانت غير مؤمنة كالعادة، وسُراق اندفعوا إلى محل مفاتيح الخزائن!

أما عساكر الأمريكان فلم تبر بالوعد الذي قطعته حكومتهم على نفسها للآثاريين، قبيل الحرب بأسبوعين. ذلك عندما شعر جماعة من الآثاريين، وهم من البعيدين عن المعارضة والحكومة السابقتين، أن الحرب واقعة، شكلوا وفداً إلى واشنطن، وطلبوا التعهد بحماية المتحف والمواقع الأثرية. ويثور التساؤل أيضاً: كيف اندفعت الأحزاب والميليشيات إلى السيطرة على القصور، والدوائر لتتخذ منها مقرات ومنازل فارهة، ولم يراودها القلق على دار حضارة العراق، وهي تُنهب ليومين متتالين؟ وما توقف النهب إلا بفضل الآثاريين، الذين اعترضوا بأجسادهم سفلة الشوارع والطرقات.

نقرأ في تاريخ إدارة الآثار العراقية أن (المس بل) أسست عام 1923 مديرية الدائرة الأركيولوجية، وبفضل الخاتون عرفنا فن المتاحف. وبعدها تولى الإدارة: ساطع الحصري (ت 1967)، وله الفضل في حماية حصة العراق من آثاره. الألماني جوردن، الذي جاء به انقلاب رشيد عالي الكيلاني. ناجي الأصيل (ت 1963)، وبجهوده صدرت مجلة «سومر» الآثارية، التي استمرت منذ 1945 واحة علم إلى أن اختلت موازينها في الثمانينيات. طه باقر (ت 1984)، مترجم ملحمة جلجامش عن نصها الأكدي. فيصل الوائلي (ت1986)، مترجم ملحمة قلقميش عن نصها البابلي. ثم عيسى سلمان، ومؤيد سعيد. وحتى التاسع من أبريل(نيسان) تولى إدارة الآثار جابر التكريتي. وبعد 2003 تولى الهيئة: ربيع القيسي، فعبد العزيز حميد، فدوني جورج. وتولى إدارة الآثار في المنطقة الشمالية، ولها خصوصيتها، الآثاري بهنام أبو الصوف. وباستثناء الحصري والأصيل فبقية المديرين كانوا من ذوي الاختصاص الكبار، بمن فيهم المس بل.

هذا، وهناك أسماء أخرى، من ذوي الاختصاص الأَثري، لم تتمكن من مسايرة ما جرى ويجري، فاتخذوا من الخارج منازل: إسماعيل حجارة، ولمياء الكيلاني، ووليد ياسين، وغانم وحيدة، وصباح عبود، ومنير طه، وفوزي رشيد، وفاروق الراوي وغيرهم. وكانت الآثار العراقية من أكثر الدوائر استيعاباً للنساء، فمن غير الكيلاني المتخصصة في الأختام الأسطوانية، تولت نوالة المتولي إدارة المتحف العراقي، وحالياً تتولاها أميرة عيدان. وليس أكثر خبرة في المسكوكات من مهاب البكري، وقيل هناك مَنْ يقف حائلاً دون عودتها للعمل. بعد وزارة المعارف، ثم الثقافة، أُلحقت هيئة الآثار بالسياحة، من دون تمييز بين إدارة الفندقة والمطاعم وعلم الآثار. ولا سيما غزارة الآثار بالعراق مثل غزارة مائه ونفطه، لا تخلو مدينة من مدنه من اطلال مملكة أو أركان صومعة! وقيل ما زال الخزين منها يقدر بنحو 90%. لكن، غدت الآثار العراقية مالاً سائباً، إذا علمنا أن اللقى مرمية بلا تسجيل، ومنذ التسعينيات كُف عن تسجيلها في وزارة المالية.

إلى جانب هذا الإهمال، تداولت الأخبار أن رسائلَ رسمية أشارت إلى الآثار بالأصنام، وإن صحت مثل هذه الأخبار، فما معنى ما ورد في ديباجة الدستور: «نحن أبناء وادي الرافدين.. صُناع الكتابة ومهد الترقيم، على أرضنا سُنّ أول قانون»؟ وما قيمة المادة (110) من الدستور: «تُعد الآثار والمواقع الأثرية... من الثروات الوطنية»؟ أقول: هل عُثر على ذلك القانون بلا تمثال حامورابي؟ وهل حوت تلك المواقع غير التماثيل، وأدوات العبادة والحياة العامة؟ بطبيعة الحال، لا يفسر هذا التردي الثقافي إلا بتكريس إهمال الآثار، أو تبرير سرقتها! فليس هناك أسهل من الإفتاء بسلب بقايا (الكفار). وإذا تحولت الآثار إلى هذا المعنى، فماذا ينتظر السياحة العراقية من انحطاط؟ مَنْ يحتقر العناية بالآثار، سواء بتطرف ديني أو بغرور العصرنة، يحول دون التكاشف بين الدهور، وينفي تراكم تجارب الأمم، التي تظهر بمجسم قارب أو عجلة، أو أدوات حلي. ويبدو أنه تخلف عَمَن قال قديماً في الأهرامات: «كل بناء يُخاف عليه من الدهر، إلا هذا البناء فإني أخاف على الدهر منه» (نهاية الأرب). وتمنى لو أن هارون الرشيد لم يسمع لنصيحة وزيره ومضى هادماً طاق كسرى (الوزراء والكتاب). وتراه لا يصدق أن البحث عن «الأمم السالفة المستودعة ببطن الأرض» (مروج الذهب) مطلباً قديماً، لم تفتِ أئمة المذاهب ضده.

لقد أضر وزير السياحة والآثار بأنفس الثروات، إذا سمح بتداول مثل تلك الرسائل الرسمية، ونجده بدفع دوني جورج إلى الاستعفاء من منصبه، قامعاً عزم بقية الآَثاريين على العودة. وأرى سيعم الخراب، أكثر مما هو الآن، إذا تعامل كل وزير في وزارته كمقاطعة خاصة، ووفقاً لهذا العُرف جاءت سرعة إشغال إدارة الآثار بمَنْ ليسوا بدلاء لما تقدم من الأسماء!

ومع كل ما تقدم، فلربما يُعطى الحق لمَنْ تلمس سرقات أموال الإعمار، والتبرعات لغرقى جسر الأئمة، وضحايا بقية النكبات، السخرية من هاجس القلق على الآثار ببيت أحمد شوقي: «أمَنْ سرق الخليفةَ وهو حيٌ.. يعف عن الملوك مكفنينا»!

[email protected]