من استرادا إلى برلسكوني: النظام الديموقراطي يسلم عنقه للأكثرية

TT

يقول الديموقراطيون في الغرب ان الديموقراطية ليست النظام الامثل لكنها الاقل اخطاء. وقد كانت مشكلة الديموقراطية ولا تزال وستبقى في ميزتها الاولى والكبرى، ترك حرية الخيار للاكثرية العددية. والاكثرية العددية تخضع احيانا وربما غالبا، لاهواء شتى وتتأثر بالمظاهر وتؤخذ بسطحيات الامور. ويزداد هذا الضعف ضعفا في زمن الصورة والتلفزيون وشطارة الدعاية التي تحولت الى فن واختصاص واحدى اكبر الصناعات في العالم. وفي احدى روايات شرلوك هولمز يقول الدكتور واطسون لشرطيه السري الشهير «خذ هذا الجنيه وانشر به اعلانات في كل الصحف». اما الآن فان ثمن الدقيقة الاعلانية الواحدة في اميركا خلال نقل «المباريات الكبرى» هو 20 مليون دولار. وتكرارا: 20 مليون دولار للدقيقة الواحدة.

واليوم لا تزال شركة جنرال موتورز هي اكبر شركات اميركا، لكن تكاد تنافسها على المرتبة شركة مثل «تايم ـ تيرنر» التي نشأت عن الدمج بين شركتين ضخمتين يقوم دخلهما على الاعلان. والذي تبرع للامم المتحدة بمليار دولار في هذا العصر هو تيد تيرنر صاحب الشبكة التلفزيونية وليس ديفيد روكفلر صاحب المصرف، الذي كان والده قد تبرع للمنظمة الدولية بالارض التي بني عليها برجها الازرق. وكانت غايته الحقيقية يومها ان يرفع سعر الاراضي المحيطة بها، ما بين الجادة الاولى والثانية في نيويورك.

ان «الدعاية» او التأثير الدعائي والاعلاني هو الذي يتحكم بحياتنا اليوم من دون ان ندري او ان نشعر. والمنتوج الذي لا دعاية له لا وجود له. ومعظم المنتجات الاستهلاكية تبلغ كلفة الترويج لها ضعف كلفة تصنيعها. وقد ضمت السياسة نفسها بكل ذكاء الى صناعة الترويج واصبحت منتوجا قائما على الدعاية القائمة على قاعدة ذهبية لا تخطئ، وهي ان «الحقيقة هي ما نقول انه الحقيقة وليس الحقيقة في ذاتها». ومع ازدياد النفوذ الاعلاني او الدعائي ازدادت في الانظمة الديموقراطية امكانات الخطأ. وكان فوز السنيور بيرلسكوني في ايطاليا هذا الاسبوع دليلا آخر على امر يكاد يتحول الى قاعدة. فالرجل تعرض للاشتباه والمساءلة والملاحقة القانونية، لكن الآلة الدعائية الهائلة التي يملكها حولته الآن الى زعيم سياسي مؤثر في احد بلدان اوروبا الرئيسية. لقد انتخب الناس «الصورة» مرة اخرى، او بالاحرى انتخبوا «الاطار» برغم معرفتهم بحقيقة الصورة.

ويحدث ذلك في بلد سياسي عريق، او شديد العراقة، كان مهدا لعصر النهضة الاوروبية، وعاش حياة حزبية وتعددية سياسية حالت طوال نصف قرن دون وصول اكثرية واحدة الى الحكم، بل ان ايطاليا هي رمز الدولة القائمة على مجموعة صغيرة من الاحزاب، ولذا لا تعيش حكوماتها طويلا كما هو الحال في بريطانيا او الولايات المتحدة، او في فرنسا الجمهورية الخامسة. وقد ادت هذه التعددية الى وصول شيوعي الى رئاسة الحكومة السابقة، السنيور داليما على اننا اليوم لسنا في عصر الاناشيد الفاشية وتحية موسوليني.

والذي يضمن الفوز ليس الطوابير العسكرية والقمصان الكاكية بل محطات التلفزيون، واضافة الى ان فوز برلسكوني هو حدث بالمعنى المفاجئ والمعاكس، فهو تدمير مقلق في عالم الديموقراطيات. فنحن هنا في قلب اوروبا ولسنا في الفيلبين، حيث نقلت «الصورة» السنيور استرادا الى الرئاسة ومعه كل «خصاله» وكل اصدقائه المافيين وكل عشيقاته ومخصصاتهن. وبعد وصوله بقليل اكتشفت الفيلبين ان الرئاسة اصبحت في يد خارج على القانون، واكتشفت النخب في البلاد ان النظام الانتخابي ومبدأ الاكثرية العددية جعل الصوت الحاسم والمرجح في يد ربات البيوت والخادمات اللاتي كن يتابعن مسلسلات استرادا «الصابونية» على التلفزيون، في حين لم يستطع اساتذة الجامعات والمثقفون والصناعيون والتجار الاتفاق على مرشح قادر حتى على الوقوف في وجه «راسبوتين» الفيلبين.

اعط الناخب حق الاختيار وسوف يقترع لمن يشاء. وفي عصر اختلفت فيه المقاييس والمعايير، فالارجح انه سوف يقترع «للصورة» التي يعرضها عليه التلفزيون وتقدمها له الدعاية. فالنموذج اليوم لم يعد «الزعيم» و«المنقذ» او «الموحد»، بل «الجذاب». ولم تعد الفضيلة شرطا ولا النزاهة حكما ولا الكفاءة لزوما، بل هي في بعض الحالات عبء تريد الناس التخفف منه لكي توصل الى الحكم «محبوبها» الاول الذي رسمت له الدعاية صورة لا علاقة لها اطلاقا بالحقيقة.

لعلها عقدة «روبن هود» في الثقافات البشرية، اي قاطع الطرق الذي يسرق لكي يعطي الفقراء، وبالتالي فهو ليس لصا بل «بطلا». وقد ظنت النسوة في الفيلبين ان السنيور استرادا سوف ينقل معه ادواره من الشاشة الى القصر، لكنه في القصر احترف الدور الذي لم يظهر به على الشاشة اطلاقا.

تلعب «الصورة» دورا رئيسيا بصورة خاصة في انتخابات الرئاسة الاميركية. وهنا ايضا يمكن ان يصل ممثل مثل رونالد ريغان ولكن لا يمكن لريغان ان يكون استرادا، لا في ماضيه ولا في حاضره. ويمكن لبيل كلينتون المجهول ان ينتصر بسبب «صورته» على جورج بوش، ولكن لا يمكن له ان يفلت من آلة الرقابة على الحكم بابعد من الرواق الشمالي.

ولا يمكن اطلاقا في النظام الاميركي وصول رجل تعرض للمساءلة القانونية او حتى للمساءلة الاعلامية والملاحقات الصحافية، لكن الثغرات القائمة في النظام الديموقراطي تتركه نظاما هشا في كل حال. ويؤدي نظام الاقتراع المباشر الى فوز استرادا او برلسكوني او ارييل شارون ايضا. ويمكن «التفويض» الشعبي حاكم اسرائيل من احراق الارض وتهجير الناس وتفريغ الضفة من دون اي مساءلة او سؤال. وكل يوم تخرج علينا محطات التلفزيون بالصور الرهيبة والاخبار المفزعة عن الموت والقتل والدمار، لكن احدا لا يخبرنا عن اعداد الفلسطينيين الذين يغادرون الضفة الى الاردن، أليس هذا هو العنصر الاكثر قلقا في كل هذه الحملة الشارونية التي لا تتوقف: قصف المدن في الليل وفتح الباب امام الهجرة في النهار؟ أليس هذا ما يحدث كل يوم في الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط؟