أقال الله عثار السودان

TT

حزنت إذ قرأت مقالاً بعنوان «مواقف سودانية أسيء فهمها» نشرته «الشرق الأوسط» في عددها الصادر 26 ابريل (نيسان) للسيد جمال محمد ابراهيم.. نائب السفير السوداني بلندن.

قبل ذلك بأسبوعين كتب رئيس التحرير الأستاذ عبد الرحمن الراشد مقالاً أبدى فيه قلقاً شديداً لما يتواتر من أنباء عن ممارسة الرق في السودان، ولما يحيق به من اضرار جسام من جراء استهانة المسؤولين بذلك الاتهام الخطير وقعودهم عن التصدي لدحضه بالحجة والبرهان واكتفائهم بالاستخفاف به بحسبانه أباطيل تروج لها دوائر كنسية صهيونية. قال الأستاذ الراشد ان ذلك لا يكفي، إذ انه لا دخان بلا نار.

وبعد يوم واحد من مقال السيد جمال محمد ابراهيم نشرت «الشرق الأوسط» مقالاً حزيناً باكياً للأستاذ حسونة المصباحي، أستذكر فيه انطباعات حسنة عن السودان منذ طفولته، ازدادت جمالاً على مر السنين نتيجة للقاءاته مع عبد الله الطيب ـ كتب الله له الشفاء ـ والطيب صالح ومحمد ابراهيم الشوش وطيب الذكر صلاح احمد ابراهيم. وختم مقاله الباكي بالتعبير عن الأسى العميق لما أصاب السودانيين على أيدي حكامهم من ذل وفقر، وجوع ومرض، وقتل وتعذيب، وتهجير وتشريد. ما أحسب ان الأستاذ حسونة قرأ مقال السيد جمال الدين محمد ابراهيم، لو كان قد فعل لازداد حزناً وأسى ولأوجعه ان محنة السودانيين على ايدي حكامهم لا تقتصر على ما يسامون من عنت، بل انها ينطبق عليها المثل العربي «ضغث على إبالة» والمثل الانجليزي «يضربك ثم يمضي فيشتمك». وذلك اننا لم نقرأ مرة واحدة خلال الأحد عشر عاماً التي جثمت فيه جبهة «الانقاذ» الاسلامي على صدر السودان حديثاً من مسؤول يشف عن قلقه لتدني قيمة الجنيه السوداني من 12 جنيهاً للدولار عام 1989 الى 2400 جنيه للدولار عام 2001، أي بنسبة 20.000 في المائة، وما يتبع ذلك من ارتفاع الغلاء بنسبة مشابهة، لم نقرأ مرة واحدة ان مسؤولاً سودانياً أقض مضجعه تفشي الأمراض الوبائية وانعدام الدواء وسائر الخدمات الصحية، او الخراب الذي ألم بدور التعليم او تهديم الطرق او تلوث المياه او انقطاع الكهرباء بصفة شبه مستديمة. لم نسمع ان مسؤولاً حزن للدماء الزكية التي تهرق في حرب راح ضحيتها عشرات الآلاف من شباب الشمال ومئات الألوف من شباب الجنوب، بل اننا بعكس ذلك نسمعهم يحدثوننا عن مشروع حضاري اسلامي ارسوه في السودان ابتداعاً وتخطيطاً وتنفيذاً، يا له من عجب بالعجز، ورضى بالنفس مع الفشل واستهتار بالقيم الاسلامية والانسانية، أليس ذلك هو الضغث على الإبالة والسب الذي يعقب الضرب؟ السيد جمال محمد ابراهيم، وهو دبلوماسي يتقلد منصباً رفيعاً في موقع حساس، لا شك انه يتحرك باشارة من حكومته أو على الأقل برضاها. فلا غرو إذن ان يكون المنحى الذي انتهجه في المقال المشار اليه آنفاً صورة مرآتية لسلوك المسؤولين في الجبهة القومية الاسلامية، واضح ان السيد جمال لم يع فحوى مقال الأستاذ الراشد او لعله لم يكترث له، مثلما يفعل المسؤولون في السودان ازاء ما يوجه اليه من اتهام بممارسة الرق او التغاضي عنه.

طمأننا دبلوماسي جبهة «الانقاذ» في مقاله ان كل شيء في السودان على ما يرام، الحكومة ماضية في مسارين: انهاء الحرب الأهلية لينعم المواطنون «بالأمن والأمان» واستثمار المواد الطبيعية لينعموا بثمار التنمية الاقتصادية. أما المسار الأول فقد ظلت تعوقه تلك الأيدي الأجنبية الخبيثة التي تحرك د. جون قرنق (هكذا ببساطة). اما المسار الثاني فالحكومة ماضية فيه اذ انها أنشأت صندوقاً لاعمار الولايات والمناطق «المتضررة». ونفى الدبلوماسي استعمال أي جزء من حصة السودان من عائدات البترول في تمويل العمليات العسكرية. وفي معرض حديثه عن الاتهام بممارسة الرق وانتهاك حقوق الانسان فقد طمأننا ـ لا فض فوه ـ ان الحكومة ساعية الى احتواء كل «مظاهر» الانتهاكات، وأما تجارة الرقيق فان هي إلا مجرد «خطف واسترهان» وهو ـ كما يزعم ـ سلوك قبلي قديم تعرفه كل القبائل والتركيبات الاجتماعية والتقليدية.

لو كنت بحاجة الى التعقيب على هذا الزعم القبيح الظالم لأشهدت الله انني لم أر او أسمع او أقرأ ـ طوال عمر طويل ـ ان قبائل السودان تمارس خطف الأطفال والنساء وأسرهم. واقع الأمر انه كانت تقع اشتباكات بين القبائل استباقاً الى مواطن الماء والكلأ: بين القبائل الشمالية في ما بينها مثلما يحدث احياناً بين المعالية والرزيقات، وبين قبائل شمالية وأخرى جنوبية مثلما يحدث احياناً بين الدينكا والرزيقات، او الدينكا والمسيرية. وكان شيوخ القبائل وأعيانها يقومون بفض تلك النزاعات سلمياً خلال بضعة أيام، يحكمون برد الأسرى والغنائم والتعويض عما أصاب الفريقين او احدهما من أضرار. ولكن الموقف قد تغير الآن إذ ان الشيوخ والأعيان والكبار قد أفلت الزمام من أيديهم فما عاد الشباب يعيرون أدنى اهتمام لرأي كبارهم ولم يعد ثمة وازع أو رادع منذ ان قامت الحكومات بدءاً بعام 1985 بتسليح الميليشيات القبلية.

مهما يكن من أمر، فلا ينبغي ان ييأس الحادبون على مصلحة السودان ان يكون لسان حالهم: «دعوا دما ضيعه أهله» انه دمنا جميعاً سودانيين وعرباً وأصدقاء أفارقة آخرين. لذلك يتوجب علينا جميعاً ان نظل نذكر المسؤولين عن مغبات تقاعسهم عن التصدي الحازم الجاد للاتهام بممارسة الرق. «ان في ذلك لذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد».

ليس صحيحاً ان كل الذين يتحدثون عن الرق صليبيون وصهاينة، بل بينهم من عرف بالحماس الصادق للحقوق الأساسية وبينهم كذلك من لا مصلحة لهم في الحاق ضرر بالسودان. وهم جميعاً يسألون:

ـ كيف ساغ للحكومات منذ 1985 ان تتنصل عن مسؤولية استتباب الأمن وهي مسؤولية كبرى، أدت الحاجة اليها ـ كما قال ابن خلدون ـ الى نشوء الحكومة كمؤسسة في المجتمع البشري؟ كيف ساغ لحكومات السودان ان تقعد عن أداء المسؤولية لاجئة الى تسليح الميليشيات ليقوموا بأدائها نيابة عنها؟

ـ انهم يسألون ماذا فعلت الحكومات المتعاقبة للتأكد من ان السلاح الذي تقدمه للميليشيات القبلية لا يستعمل للكسب الشخصي وأغراض أخرى لا علاقة لها بالدفاع عن النفس؟

ـ انهم يتساءلون عن رفع صيحة الجهاد في الحرب الأهلية وعن اطلاق لقب الشهيد للضحايا من الشباب الأبرياء وعن ضروب الدجل التي يمارسها بعض المسؤولين مثل العقود التي يزعمون انهم يبرمونها لتزويجهم من الحور العين.

ـ انهم يسألون أليس من شأن ذلك جميعاً ان يضفي صبغة دينية على الحرب الأهلية مما يوهم بمشروعية استرقاق من يؤسر في عملياتها؟

ـ انهم يسألون كيف يجوز للحكومة ان توهم بأنها حرب دينية وهي تعلم يقيناً ان جيش الحركة الشعبية وجيش القوات المسلحة كلاهما يضمان مسلمين وغير مسلمين؟

ـ انهم يسألون ماذا فعلت الحكومة بعد ان تواترت الأخبار عن تجارة الرقيق لتقصي الحقائق ومقاضاة من تتوافر الأدلة ضده باستعباد أي شخص او استرقاقه او التحريض أو التستر على ذلك؟

ـ ويسألون أما آن الوقت لنزع سلاح الميليشيات وفضها؟

وأخيراً أليس من حق الشعب السوداني التساؤل عن مدى مسؤولية الحكومة ـ فعلاً او تركاً ـ عن تمكين الرئيس جورج بوش من حجج يسوقها لاعلانه ـ كما ورد في صحيفة «الواشنطن بوست» يم الجمعة 4 مايو (ايار) 2001 ـ بأنه سيتخذ ما يلزم من الاجراءات لوقف الحرب ضد المسيحيين (هكذا!) في جنوب السودان؟

وختاماً أعود فأقول انني حزنت إذ قرأت مقال السيد جمال محمد ابراهيم في «الشرق الأوسط» يوم 26 ابريل 2001، كانت أتيحت لي فرصة على مدى عامين في منتصف الستينات للتعامل مع الدبلوماسيين السودانيين والتعرف على أدائهم عن كثب. ولقد كان لعمري أداء معجباً، في نظري بشهادة الدبلوماسيين الأجانب. واني أرقبه اليوم عن بُعد بعد أربعة عقود فأراه أداء رخواً ركيكاً.

أقال الله عثار السودان.

* وزير خارجية السودان الأسبق ورئيس الجمعية التأسيسية (86 ـ 1988)