الدبلوماسية بين العمل العسكري والإعلامي

TT

كان من سمات العمل النضالي الفلسطيني دوماً، تحمل الصعاب وعدم الاعتراف بالهزائم او الرضوخ لها نفسياً او نظرياً، حتى لو كان الواقع اليومي الناتج عن تلك الصعاب والهزائم يحرم الناس اسس الحياة ويكاد يحرمهم الهواء للتنفس. في السابق، وحتى الان، اعُتبر هذا الوضع صموداً، ونوعاً من عزة النفس والافتخار بالاصالة، لكن استمرار هذا النهج الآن لم يعد من الفروسية، ولا يدل على مسايرة روح العصر بالانفتاح واعلان الحقيقة كسباً للذات بالاستعداد لتصحيح الوضع، واكتساباً لتفهم ودعم الرأي العام العالمي المُسير ضمن «لعبة» غير عصية على من يحسن ترتيب الاوراق والاستفادة القصوى من الظروف المتاحة طوعاً او مفروضة قهراً. ولنأخذ مثالاً من واقع اليوم للمقارنة بين الفلسطينيين وعدوهم.

بدون شك، لدى كل مطلع ومنصف للحقيقة، ان الشعب الفلسطيني هو الطرف الاضعف في المعادلة، اذ نهبت ارضه وحقوقه وتتم المساومة بالقتل على مستقبله، بينما الطرف الاسرائيلي هو الاقوى على مستوى اقليمي، أي ضد كل العرب، وهو الفاعل للنكبة الفلسطينية المتواصلة والمستفيد منها. لكن من يتابع الاحداث السياسية والنشاط الدبلوماسي اليومي على صعيد عالمي يسمع ويرى ويشعر كأن «الاسرائيليين يتلقون الضرب يومياً من قتلة لا يميزون في اختيار الاهداف، بينما جيش الدفاع الاسرائيلي يرد النار مضطراً ولا يقتل عمداً ويهدف فقط من قذائف الدبابات وقذف الصواريخ بأنواعها الى جر القيادة الفلسطينية لطاولة المفاوضات لحل الاشكال بأسلوب متحضر!». على الطرف الفلسطيني تجد وتسمع تمجيداً لقذائف الهاون وتهويلاً لدورها، وبيانات صاخبة تهدد بأشكال جديدة قادمة لنسف بيوت الصهاينة على رؤوسهم، واعلانات الصمود اياها وقدرة الشعب على المقاومة.. الخ... وهذه اسلحة في يد الدعاية الاسرائيلية بغض النظر عما يطبق فعلاً، وما يبقى عنتريات شفهية، وكثيراً ما تسمع من محطات التلفزة العالمية ان المنظمة الفلسطينية الفلانية هددت بكذا، و«ردت» اسرائيل بملاحقة «ارهابيين» وقصف بيوتهم. المهم هنا ان «المهارة» الصهيونية تعتمد بشكل كبير على العنترية العربية الفلسطينية في تمرير دعايتها المخططة بدقة والملائمة لروح ولمجريات العصر. القيادة السياسية الفلسطينية هي المسؤولة، وعلى درجة واضحة، عن هذه النتيجة، فهي لا تصحح مسارها الاعلامي والعملياتي الخاطئ، بل انها خربت على المسار الشعبي الاعلامي الناجح. في الانتفاضة الاولى، لم يكن الحضور القيادي موجودا ميدانياً في فلسطين، ولم يأخذ العالم بأعلام المنظمة، فظهرت حقيقة الوضع وخسرت اسرائيل اعلامياً ومعنوياً وسياسياً عبر العالم ولم تنجدها الحيل والخطط الاعلامية، وتحرر الاعلام العالمي بدرجة كبيرة وطويلاً من التأثير الصهيوني... آنذاك كانت المعادلة جلية، شعب اعزل مُحتل يقاوم اقوى جيوش المنطقة. اما اليوم فما زال الشعب اعزل من السلاح والاقتصاد، ولكن القيادة اصبحت في الداخل وبقيت على عادتها القديمة تتغنى بالشعب وصموده، وتعجز عن الدفاع عنه عسكرياً، ولا تفصل بين النضال الشعبي والآخر المسلح، واختلط الحابل بالنابل من ترويج اسرائيل لمقولات ان المسلحين الفلسطينيين الرسميين، أي الجيش الفلسطيني، هو الذي يقود الحرب، ويمارسها من بين المناطق السكنية... الى غير ذلك مما يسهل مهمة الاعلام الاسرائيلي. الامر هنا ليس اعلاماً فقط بالمفهوم البدائي للكلمة، فاسرائيل تبرر افعالها معتمدة على مقدار نجاحها الاعلامي. وبمعنى آخر لو خسرت اسرائيل اعلامياً فإرهابها سيكون أقل، والدعم والمساعدة بأنواعها للفلسطينيين سيكونان اكبر... لذلك نرى اسرائيل تتمسكن أمام العالم وتهول من قدرة القوة الفلسطينية، بينما المساكين فعلاً يهولون في اقوالهم النظرية الى درجة ان وزارات خارجية غربية وشرقية لم تعد تميز بين معاني انتفاضة، ومقاومة، وارهاب، ونجد الغربيين انصار الانتفاضة الاولى يطالبون الآن بنفس واحد بوقف العنف والانتفاضة، ووزير الخارجية الاسرائيلي شيمعون بيرس يجد في اوروبا من يستمع اليه وهو يطالب دول الاتحاد الاوروبي باقتفاء اثر واشنطن في شجب العنف الفلسطيني كطريق ـ الشجب ـ مفضل لاعادة القيادة الفلسطينية الى طاولة المفاوضات! لو نسي طالب تاريخ بعد الف عام من الآن مراجعة ميزان القوى العسكري في المنطقة واعداد الشهداء، وراجع تاريخ رئاسة ارييل شارون للحكم، سيصل بالتأكيد الى استنتاجات اقلها رفض القيادة الفلسطينية للسلام الذي ركضت اسرائيل خلفه. لا بد من محاكمة هذا الواقع علانية وتصحيحه بأقصى سرعة... يمكن فهم الانهزام اعلامياً في مراحل سبقت، وأمام قيادة اسرائيلية اخرى، اما الهزيمة الاعلامية الآن امام شارون بالذات وفي ظل كل هذه المعاناة الفلسطينية والقهر، فذلك من اغرب الغرائب. في عالم اليوم لا تنفصم الدعاية الاعلامية عن الرأي العام العالمي المؤثر مباشرة على سير العمل الدبلوماسي للحكومات وللمنظمات الدولية. والاعلام لم يعد اقوالاً وبيانات وادعاءات، وانما هو بحاجة الى تخطيط وتنسيق مع بقية الافعال اليومية. هكذا لا يمكن نجاح الاعلام اذا لم تكن القيادة والممارسات متجاوبة مع اهدافه. الاعلام الفاشل هو الذي يُسخر جزافاً لخدمة قضية سياسية او سياسة قائد وبدون التناسق بين القول والفعل... ولهذا يمكن للحق ان يفشل وللظلم ان ينجح اعلامياً، فالمهم هو الاداء المتناغم بين الاقوال والافعال، ومراعاة احوال المستهدف اعلامياً. هدف شارون هو تحطيم الشعب الفلسطيني قدر الامكان ومع اقل الاضرار باسرائيل، ويعتبر هذا الجنرال بطل عدة مذابح، ولكنه يعتبر الآن ان الاعلام هو اهم اسلحته، وينسق بدقة بين القذف المدفعي والصاروخي وبين القذف الاعلامي، ولا يتردد لحظة عن تصحيح مساره والاستماع لخبراء الاعلام. شارون لا يلجأ للدعاية والاعلام لنقص في الاسلحة الحربية، وانما تجاوباً مع روح العصر الذي يُحاكم فيه مجرمو الحرب، ويمنع الفصل العنصري وترحيل السكان. هكذا يُضيق شارون بشدة متناهية على حياة الشعب الفلسطيني اليومية، يعدد كل اعمال المقاومة ويخلط الشعبي بالعسكري ويسمي كل شيء بالعنف (آخر احصائية اسرائيلية تقول بقيام الفين وتسعمائة عملية عنف فلسطينية ضد اسرائيل منذ بداية الانتفاضة الحالية قبل سبعة اشهر)، ويطالب بالعودة لمفاوضات السلام ولكن بعد وقف العنف واثبات انه توقف (يريد عدة اسابيع هدوء)، ويحث العالم بالضغط على القيادة الفلسطينية لتجنح للسلام... يقصف بالصواريخ الذكية وقنابل الطائرات وقذائف الدبابات المدن الفلسطينية مدعياً انه ينفذ اتفاقية اوسلو بحق مطاردة الارهابيين، يجرف المزارع والبيوت بحجة حماية السير على الطرقات، يقبل مبادرة الاردن ومصر، ولكن بعد نقاش وتغيير بعض بنودها، يتقبل تقرير لجنة ميتشل ولكن من دون الموافقة على تجميد الاستيطان... ويحث باستمرار على انهاء العنف والعودة للمفاوضات عبر الضغط على القيادة الفلسطينية عسكرياً من اسرائيل، وسياسياً من الخارج، بل يقول للعالم ان الضغط على القيادة الفلسطينية لتفاوض هو افضل واقصر الطرق لانهاء المعاناة والعنف المتبادل. لقد خربط شارون توقعات الكثيرين من الذين توقعوا ان يحتل المناطق الفلسطينية، او يقوم بعملية طرد قسري للفلسطينيين او ما شابه ذلك من افعال مهولة تثير العالم ضده وضد اسرائيل... الجنرال لم يغير اهدافه وانما غير اساليبه، او بالاحرى ركز كثيراً على سلاح الاعلام وناغم فعل بقية اسلحته الحربية لخدمة الاعلام، تسهيلاً للانجازات الدبلوماسية، واغدقنا عليه بأسلحة مجانية عبر تهاوننا وانعدام نشاطنا ورؤيتنا الاعلامية... قريباً سيتجول شارون في اوروبا ليخبرهم انه لا يريد ابادة الفلسطينيين او احتلال مناطقهم ولا حتى قتل قيادتهم وانما يريد السلام غير النهائي ولفترة اختبارية طويلة، وعلى اوروبا ان تضغط لتساعده في طريق السلام... اوروبا ستضغط لانها تريد انقاذ ما يمكن انقاذه، وهي غير معنية اصلاً بصدام أي كان نوعه مع اسرائيل، كما انها ان كانت ستتفهم استمرار انتفاضة مع وجود مفاوضات، الا أنها لا توافق على استمرار هذا الوضع غير الانتفاضي من جهة، والقهري الحربي من جهة اخرى... أي صديق اوروبي للفلسطينيين سيوافق على وقف العنف من الطرفين والعودة لاختبار المفاوضات من نقطة ما قبل سبعة اشهر لانه يرى في ذلك منفعة فلسطينية حتى لو جاءت من باب الاستجابة لشرط شارون بوقف العنف قبل العودة للمفاوضات. نحن نعرف طبعاً ان الجنرال لا يريد السلام، وان تنفيذ شروطه سيكون بداية للمزيد من التنازلات عبر القوة والضرب والتحايل، وان نجاحه الآن قد يعطيه فرصة انتخابية ثانية، ذلك كله جلي أمامنا، ولكنه ليس بذلك الوضوح للغير خارج المنطقة، وها نحن من سوء اداء قياداتنا اعلامياً وعسكرياً وسياسياً نجد انفسنا مجدداً مضطرين لاقناع اضافي للاصدقاء عبر العالم... كنا نعتقد ان نجاح شارون في الانتخابات سيمهد الطريق للمزيد من التقارب العربي ـ الفلسطيني مع العالم، وها نحن على بداية طريق اخر ما زال من الممكن بل من الواجب تصحيحه... لكن لا غالب الا الله.