إلى متى يصمت العالم؟

TT

بعد انتصار الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في حرب «عاصفة الصحراء» اعتبر الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش أن الحرب كانت حربه شخصياً، والانتصار فيها كان انتصاره الشخصي جزاء وِفاقا.

ومفاجأةً ودون ضرب موعدٍ أعلن في قمة مجلس الأمن سنة 1992 ـ وهو مزهو بانتصاره ـ عن مشروع إقامة نظام عالمي جديد، متَّبعاً في ذلك التقليد التاريخي الذي دأب على إقامة نظام عالمي جديد إثر نهاية كل حرب عالمية. لكن النظامين العالميين السابقين سواء نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية لم يكونا من صنع دولة واحدة أو قطب وحيد، بل كانا من صنع جماعي من لدن الحلفاء المنتصرين.

لم يكن حدثا عادياً إذن أن يتولى قطب واحد الإعلان عن مشروع النظام العالمي الجديد وأن يخطط له بمفرده ويتبناه ويقدمه وصفة طبية لعلاج العالم من أدوائه ويضع ثقله لحمل البشرية على الانخراط فيه دون سابق حوار أو نقاش.

ولم يكن تسويق هذا النظام إلا تبضيعاً شاملاً للنظام الأمريكي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، مما جعل الملاحظين ينتبهون إلى حقيقته ويقولون عنه إنه نظام «أمْركة» العالم. إذ هو لا يختلف في شيء عن النظام الأمريكي التحرري القائم على القيم الأمريكية، ومنها قيمة اقتصاد السوق الذي اعتمدته الولايات المتحدة لنفسها منذ نشأتها وطيلة أزيد من قرنين وطبقته بنجاح يُذكر لها.

وتبعاً لذلك وبدون عقد بيعة شرعية نصبت الولايات المتحدة نفسها على عرش هذا النظام باسم القطب العالمي الأوحد، وأخذت تتصرف في مصير العالم دون شريك، خاصة وقد خلا المجال لها من منافسة الاتحاد السوفياتي بعد أن سقط سقوط جثة سليمان الذي لم يدُلّ «على موته إلا دابة الأرض تأكل مِنْسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين» (قرآن كريم).

قيل عن نظام الرئيس الأمريكي الأسبق «جورج بوش» إنه نظام يصفي التركة الاستعمارية ويؤكد حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكننا رأيناه يمارس على أرض الواقع تطبيقاً مغايراً لتصوراته. أليس أن الولايات المتحدة الأمريكية فرضت باسمه نظام الوصاية على العراق شعباً ونظاماً بينما الوصاية صنو الاستعمار؟ أليس أنها تساند دوام استعمار إسرائيل لفلسطين ضدا على الشرعية الدولية التي أدانت إسرائيل وطالبتها برفع الاحتلال؟

وقيل عن هذا النظام إن الرئيس الأمريكي الأسبق «جورج بوش» أراده نظاماً قائماً على ركيزة الديمقراطية. والحجر الأساس للديمقراطية هو الحكم بإرادة القاعدة، والحوار والتعددية، بينما أعلن «بوش» عن نظامه دون سابق حوار ولا نقاش فجاء في شكل إملاء إرادة الأقوى. واستفردت الولايات المتحدة بقطبيته دون أن تستقطب حولها سند شرعية القبول والرضا عنه. والأحادية التي مارستها تتنافى مع مبدأ التعددية الديمقراطية.

ألم تُنحِّ الولايات المتحدة من رعاية عملية السلام جميع من كانوا يمارسون معها سلطة الرعاية من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي؟ ألم تدمِن على استعمال «الفيتو» لحماية استعمار إسرائيل واحتلالها للأراضي العربية والتواطؤ معها في مناهضة قرارات مجلس الأمن المشخِّصة للشرعية الدولية والتي كانت صوتت عليها هي نفسها ولم تعارضها؟ ألم تضع الولايات المتحدة الشرعية الدولية في ثلاجة الموتى بدون تحنيط، وجمدتها وعطلت صلاحيتها غير عابئة بإرادة الإجماع الدولي على التصويت عليها؟

ومثل ذلك يقال عن احتضان هذا النظام مبادئ وأخلاقيات حقوق الإنسان ومناهضة الإرهاب وتأهيل البشر للانخراط في عالم بدون فوارق، لأنها تطبق من لدن الولايات المتحدة بازدواجية المعايير.

إن الشرعية الدولية يتغير مفهومها وتُتَناسى أو يتم التحايل على استبعادها إذا كانت في غير صالح الأقوياء وحلفائهم، ولا تبقى فاعلة وملزمة إلا بالنسبة للضعفاء الذين يُدانون بمخالفتها وتُفرَض عليهم العقوبات بمقتضاها. والمقاومة الشرعية تصبح إرهاباً إذا ما واجه بها شعب أعزل جيشاً مسلحاً بآخر طراز من الأسلحة الأمريكية الفتاكة، كما هو حال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في الحرب التي تشنها إسرائيل على المدنيين العزل في الأراضي الفلسطينية المسترجعة ولا يسمى عملها إرهاب دولة بل يسمى فقط عنفاً مثلما تسمى مقاومة الفلسطينيين عنفاً بدون فرق ولا تمييز. وشنُّ حرب من طرف روسيا الاتحادية على الشيشان الدولة المسلمة الضعيفة مسكوت عنه ولا تتحرك الولايات المتحدة لمناهضته، لأنه تمارسه روسيا التي ما تزال لها قوة لا تغالَب.

وقيل عن هذا النظام أيضاً إن العولمة التي يقوم عليها ستنشر السعادة والرخاء وترفع مستوى العيش عبر العالم فتبين أنها إنما زادت أثرياء العالم ـ وخاصة الولايات المتحدة ـ ثراءً فاحشاً وقذفت بفقرائه في هاوية الفقر المدقع.

وهكذا تبين للعالم أن ما يسمى بالنظام العالمي الجديد لم يكن إلا خُدعة وكذباً، علماً بأن مجتمع الولايات المتحدة التي كذبت على العالم يناهض الكذب ويعتبره خُلقاً مَشيناً ويرفضه وينبذه بل يرفض التعامل مع من يرتكبه، لأن الكذب في الولايات المتحدة أسوأ الأخلاق على الإطلاق.

إن تقارير المنظمات الحقوقية العالمية تُدمج الولايات المتحدة في عداد الدول التي تخرق حقوق الإنسان ويقوم فيها نظام التمييز العنصري. ومن أجل ذلك ولأنها تؤيد خرق إسرائيل حقوق الإنسان العربي وتمارس إرهاب الدولة على فلسطين خسرت مقعدها في كل من لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، والمكتب الدولي لمراقبة تهريب المخدرات. وكان عدم التصويت عليها تصويتاً عقابياً حتى تراجِع تعاملها بصدق وحسن نية مع مبادئ النظام العالمي الجديد الذي كانت هي مؤسسته.

ولهذا التصويت العقابي أكثر من دلالة، فقد أظهر أن المجتمع الدولي أخذ يضيق ذرعاً بتعسف السلطة الذي طبع أداء الولايات المتحدة في تعاملها الدولي وانعكست آثاره السيئة على علاقاتها مع روسيا والصين، وحتى مع حلفائها الأقربين خاصة بعد تراجعها عن توقيع برطوكول «كيوطو»، وإعلان البيت الأبيض عن عزمه على نشر الذراع المضاد للصواريخ عبر الفضاء الذي أصبح موضوعاً مطروحاً داخل مؤتمر الأمم المتحدة لنزع التسلح الذي انعقد أخيراً بجنيف.

لقد شجعت هذه الظروف التي ساءت فيها سمعة الولايات المتحدة وانتقصت هيبتها عبر العالم، إسرائيل على القيام بانقلاب عسكري ضد القطب الأمريكي الأوحد، فسطت على عرش القطبية وحلت به محلها وأخذت تملي إرادتها على العالم الذي أصبح مسلوب الإرادة تحت صدمة مفاجأة هيمنة إسرائيل على العالم الذي لم يحلم قط بهذا الانقلاب ولا توقعه من قبل، لكنه أصبح واقعاً فعلياً تمارس معه إسرائيل سلطاتها الوحشية أمام بصر العالم وسمعه دون أن يرتفع صوت بالاحتجاج على هذا الانقلاب، ودون أن تلقى إسرائيل رادعاً لتصرفاتها. وبهذا الانقلاب تغير وضع إسرائيل والولايات المتحدة إلى وضع أصبحت فيه الولايات المتحدة دولة تابعة خاضعة لإسرائيل، على عكس ما كان عليه الأمر عندما كانت إسرائيل تابعة والولايات المتحدة متبوعة.

لا الولايات المتحدة الأمريكية، ولا الاتحاد الأوروبي، ولا هيأة الأمم المتحدة نددت بهذا الانقلاب أو ارتفع لها صوت باستنكاره أو همست به على استحياء. وما يزال القطب الأعظم الجديد يتصرف من منطلق فرضه سلطته اللاشرعية على العالم أجمع، وهذا العالم يستنكر في قرارة نفسه صنيع إسرائيل لكنه يخاف من الجهر بمكنون الصدور حتى لا يتهم بمعاداة السامية من لدن إسرائيل. وهو الجرم الخطير الذي أصبح لا يُغتفَر.

ويبقى السؤال: أسيظل العالم يقابل منكر إسرائيل بالصمت؟ وهل يعني هذا الصمت قبول العالم الخضوع لإسرائيل والاعتراف الضمني لها بشرعية قطبيتها الأحادية؟