لا يحب.. لا يضحي؟!

TT

عندما سئل المؤرخ الكبير أرنولد توينبي عن الأسباب التي جعلته يهتم بتاريخ الإنسانية، أجاب في 150 صفحة ظهرت في كتابه المعروف باسم «تجاربي من حياتي».

فمن الضروري ان تكون هناك دوافع قوية له ولأي إنسان يريد ان يحقق شيئا إيجابيا في حياته.

فهو إنسان قلق، ومن الضروري ان يكون الإنسان قلقا مضطربا يلتفت يمينا وشمالا بعقله وقلبه وبقية الحواس.. ولكن القلق دافع إلى شيء وليس في جميع الأحيان شيئا مفيدا.

ولذلك يجب ان يكون هناك إلى جانب القلق: ضمير.. فالضمير يدفعنا إلى فعل ما هو نافع وما هو مفيد لنا ولغيرنا.. فإذا وضعنا القلق إلى جانب الضمير ظهرت أمامنا شخصية قوية من الناحية الأخلاقية.. ولكن ليس من الضروري ان تكون شخصية عالم كبير أو فنان عظيم.. وإنما شخصية إنسان جاد مهذب.

ولذلك لا بد ان تكون هناك دوافع أخرى.. أي عوامل أخرى لا تكفي أن تدفعنا إلى الأمام، إلى أي هدف، وإنما تدفعنا إلى الهدف البعيد الذي يكشف عن قدرتنا.. هذا الواقع هو حب الاستطلاع؛ أي الرغبة في ان نرى وان نفهم ما نرى.

وكان المؤرخ توينبي محبا للمعرفة. أما لماذا اختار التاريخ بالذات؟ فلأن أمه كانت مؤرخة. وكانت تروي له كل قصص التاريخ الحديث والقديم قبل النوم وقبل الطعام، ولأن أمه كانت حريصة على ان يعرف ابنها التاريخ بصورة عملية، رفضت ان تجعله يسمع قصة واحدة من مربية أو خادمة. فلم تدخل بيتها خادمة أو مربية، وكانت أمه أيضا تكتب له قصصا تاريخية طويلة.

ولما سئل المؤرخ نفسه بعد ذلك. ولماذا التاريخ بالذات؟ قال: لأنني أريد ان استمتع، فلا بد أن يكون الفن والعلم الذي يقبل عليه الإنسان شيئا ممتعا له عند قراءته وعند كتابته، وان ننقل هذه المتعة إلى القارئ.

وأهم من ذلك ان يكون عاشقا. فالذي لا يحب، لا يضحي، والذي لا يعرف التضحية، لا يفهم كل القيم الأخلاقية والجمالية.

ولذلك، فالتاريخ الذي أحبه توينبي هو صورة مضطربة صارخة منطقية أيضا لحب الإنسان للقوة والجمال والخير والحرية، أي لحب الإنسان للدين، ولم يكن الإنسان في أي يوم من الأيام بلا دين ـ أيا كان هذا الدين ـ يعبد حيوانا أو شمسا أو آلهة أو إلها.