شهوة «التراكتورات»

TT

تأتي أهمية المنطقة التاريخية في مدينة جدة باعتبارها المنطقة الوحيدة التي نجت من شهوة «التراكتورات»، مقارنة بغيرها من المدن كمكة المكرمة والمدينة المنورة، إذ لا تزال تحوي دروبها عددا من المساجد والمباني السكنية التي يمتد عمرها إلى مئات السنين، وتتميز هذه المباني بطراز معماري خاص تزينه «الرواشن» والأبواب الخشبية المقوسة وعرائس الأسطح، ولعل أقدم أثر معماري تضمه المنطقة هو مئذنة الجامع العتيق التي يصل عمرها إلى نحو ثمانية قرون.

لكن هذه المنطقة الأثرية تتعرض للتآكل التدريجي لعدة أسباب منها: عدم الصرامة في المحافظة عليها، وغياب الصيانة والترميم والمتابعة، وعدم وجود خطة واضحة متكاملة لهذه المنطقة، حتى أن مهندسا معماريا شهيرا هو الدكتور سامي عنقاوي يصرح بأن هذه المنطقة التاريخية ستتحول إلى خرائب خلال عشر سنوات، إن لم تحظ بمشروع حضاري كبير يحاول إنقاذها مما هي فيه.

وقد كنت مساء الأربعاء الماضي برفقة صحبة كريمة ضمت مجموعة من الأدباء والإعلاميين والباحثين وبعض العمد في زيارة إلى المنطقة التاريخية بمدينة جدة بحثا عن تلك الأجواء التراثية الرائعة التي تتسم بها المنطقة خلال شهر رمضان، والتي تحولها إلى منطقة جذب للكثير من السكان الذين غادروها في موسم الهجرة إلى شمال المدينة.. في تلك الجولة مررنا ببيت التشكيليين المغلق الذي نسج العنكبوت خيوطه على النوافذ والجدران، ومنه إلى بيت نصيف الأثري المقفل والذي يفترض أن يكون مفتوحا هو الآخر هذه الأيام لاستقبال الزوار، أما الأسواق فلقد فقدت حيويتها بفضل إدارة الاستثمار في الأمانة التي ضيقت على أصحاب «البسطات» الموسمية الذين كانوا يمنحون السوق في مثل هذه الأيام الكثير من بهجته وحيويته وجمالياته.

وباختصار: إن الإشكالية التي تواجهها هذه المنطقة التاريخية تتمثل في أن كل أمين جديد، يأتي إلى هذه المدينة يعبر عن عواطف الكثير من الناس من خلال الحديث عن إحياء المنطقة التاريخية وتفعيلها وتطويرها ثم يمضي من دون أن يفعل شيئا، فالإحساس بقيمة المناطق الأثرية ودلالاتها الحضارية لم تنضج بعد في دواخل الكثيرين.. وفي غياب مثل هذا الوعي لا أستبعد أن تلتهم المدينة الإسمنتية الحديثة هذه المنطقة الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بشيء من رائحة التاريخ وعطر الزمن.

[email protected]